في الليلة الظلماء.. يُفتقد البدر

زاهر المحروقي

في هذه الأيام والليالي المظلمة، التي يعيش فيها المسلمون غربةً عن دينهم، بعد أن كثُر المتاجرون بالدين عبر القنوات الفضائية، فانتشر التكفير والغلو والسب والقذف واللعن، وصار هَمُّ المتحدثين بالدين يتركز حول شؤون المرأة وتكفير الآخر؛ تحتاج الأمة إلى دعاة مثل الشيخ محمد الغزالي، الذي حلت ذكرى وفاته العشرين هذا الشهر.

أعترف بتقصيري تجاه الشيخ الغزالي، فلم أكتب عنه رغم أني كثيراً ما كنتُ أستشهد بأقواله في مقالاتي، واستعرضتُ كتابين من كتبه في برنامج "كتاب أعجبني" الذي يعده ويقدمه زميلي سليمان المعمري، وكنت من المتابعين جدًّا للغزالي منذ فترة مبكرة عبر خطبه وكتبه ومقالاته، ومع ذلك أجد صعوبة في الكتابة عنه؛ لأنه مهما كتب الإنسان عن قامة مثل الشيخ محمد الغزالي فإنه لن يوفيه حقه، وهذه مجرد محاولة، فقد نويت الكتابة عنه منذ فترة، خاصة بعدما سألتني الزميلة رنا الريامية: لماذا تستشهد كثيراً بآراء الغزالي في مقالاتك؟ إلا أنّ زحمة الأحداث كانت تؤجل الكتابة.

رُبَّما كان أهم سبب جعل الشيخ محمد الغزالي داعيةً ناجحاً ومهموماً بأمور الدين، أنه لم يأخذ الدين مجرد إرث من الأبوين، فقد مرَّت عليه أيام فرغت نفسه من كلِّ اعتقاد، وترك لعقله أن يوازن ويختار، ويقول إنَّ الذي أعانه على إيثار الإسلام هو أن لغته هي لغة القرآن وأنّ الدراسة الناقدة له ولغيره كانت ميسرة له، وهذا الكلام يدلُّ على أهمية دراسة القرآن بلغته الأساسية، ولكن في النهاية هذا ليس سبباً كافياً، فكثيرون من الشيوخ مُلمّون بلغة القرآن ولكن فهْمَهُم له فهمٌ سقيم، وقد استمعت إلى محاضرة ألقاها الشيخ الغزالي ذكر فيها أنه مرت به في فترة المراهقة حالةٌ شك اجتاحت كلَّ ما يعرف وجعلته يناقش -في حرية وجرأة- مواريث الإيمان والفضيلة، وتقاليد الحياة العامة والخاصة، وقد خلص من هذه الرحلة بأنّ الله حق، واستبعد كلَّ افتراض بأنّ العالم وُجد من تلقاء نفسه أو وُجد دون إشراف أعلى، وهذا يعطينا الفرصة كي نقارن بين كلِّ من يُطلِّق العقل ويعتمد فقط على المواريث وبين كلِّ من يبحث ويفكر وينقِّب، فيصف الشيخ الغزالي حاله بأنه كان مسلماً عن تقليد، ثم أصبح مسلماً عن اعتقاد واقتناع يقوم على البحث والموازنة والتأمل والمقارنة، "وكلُّ يوم يمر يزيدني حباً للإسلام، واحتراماً لتقاليده، وثقة في صلاحيته للعالمين".

ولكي ينجح الداعية، فلا بد له أن يتسلح بالعلم والثقافة، وأن يكون ملمًّا بعصره، حيث يخاطب الناس من خلال واقعهم الذي يعيشونه ويعرفونه، لذا كان الشيخ الغزالي متابعاً دقيقاً لأمور العالم، وكان قارئاً نهماً، فلم يلزم نفسه بقراءة كتب التراث فقط، وإنما قرأ كلَّ شيء، وقد انعكس ذلك على خطبه ومحاضراته وكتبه، وفي هذا يقول عن نفسه "كنت منهوماً بالقراءة، أوثر مطالعة الروايات الأجنبية، وألف ليلة وليلة. وأحياناً كتب فنية مثل الجغرافيا البشرية، وعلوم الصحة وعلوم الفلك وكتب في علم وظائف الأعضاء. قرأتُ كلَّ شيء يمكن أن يقرأه إنسان، ومن هذا كله كوّنتُ سجلاً ضخماً من المعلومات اختزنت عندي"، ومع كلِّ ما حققه الشيخ، فإنه يرى أنّ الغرور كاد أن يدمره، فيذكر أنه عندما تسلم وظيفته إماماً وخطيباً، اعتقد نفسه عالماً أزهريا تخرّج وله دراسات وقراءات وكتابات فلا بد أن يكون ناجحاً، "وبهذا الغرور بدأتُ العمل وأدركتُ بعد شهر واحد أنني جاهل، وأنّ حصيلتي العلمية استنفدت خلال أسابيع، وأني إذا لم أجدد نفسي، وأقع على ينابيع ثرة تمدني بالمعرفة افتضحت حتماً؛ لقد كنت مغروراً بعدد من المحاضرات والدروس الجيدة، وأتنقل بها في أنحاء البلاد، أما الآن فأمامي منبر واحد يثوب إليه الناس من كلِّ فج، وينبغي أن أقدم كلَّ يوم درساً، وكلَّ أسبوع خطبة. لقد عدتُ تلميذاً مرة أخرى، وكان الكتاب الديني وغير الديني أستاذي"، وفي ظني أنّ هذا درس بليغ لكلِّ الدعاة، خاصة من البعض الذين يظنون أنهم ختموا العلم، فاكتفوا بما حفظوه فقط.

ولقد تميَّز الشيخ الغزالي حتى في أسلوب دعوته، فهو كان يفرق بين الخلاف الفكري العلمي وبين الخلافات الشخصية أو المنفعية، وكان يقول "إنّ الذي يعنيني الصدق أو الإخلاص، يوم أجد إنساناً كافراً مخلصاً في كفره ومتشبساً به لا أيأس منه وأمشي معه، لأني أجد أنّ إخلاصه سيهديه يوماً إلى الخير"، وفي هذا المعنى له أكثر من مقال، كما كان له نقد للكثير من الذين تولوا مسؤولية الدعوة إلى الله، وقال عن بعضهم إنهم يملكون القدرة على الإماتة أكثر من الإحياء، ولا ندري ماذا سيكون رأيه لو بُعث حياً ورأى ما حصل للمسلمين في العشرين سنة الماضية من الاقتتال والتطاحن والتنابز بالألقاب، وتفجير المساجد بمن فيها بأيدي المسلمين؛ وماذا كان سيكون رأيه في علماء الفتنة، وكيف هبط مستوى الدعاة إلى الحضيض، فأصبح همُّ البعض التكفير، وهمُّ الآخرين التنكيت، وهمُّ الآخرين تسطيح الأمور، وكيف انتشرت فتاوى غريبة وعجيبة ومضحكة إلى درجة أن يضحك الناس ويرفعوا أرجلهم إلى الأعلى ويُنزلوها بقوة، كما يفعل زميلنا المخرج "عبد الله العزري" عندما يضحك من فؤاده.

يُعدُّ الشيخ محمد الغزالي أحد مجددي الفكر الإسلامي في العصر الحديث، ومن كبار رجال الإصلاح، رفض الجمود، وكان من المناهضين للتشدد والغلو، وكثيراً ما كان يصف بعض أحكام الفقه بأنها مستمدة من "فقه البداوة"، أو أنّها تقاليد عبس وذبيان، وكان يصف البعض بالغفلة أو الحماقة، ممّا أثار عليه حفيظة الكثيرين؛ وفي كلِّ الأحوال فإنّ الشيخ الغزالي عاش للإسلام ونذر حياته كلها لخدمته، وسخّر قلمه وفكره في بيان مقاصده وجلاء أهدافه والذود عن حماه والدفاع عنه ضد خصومه، واستغل كلَّ وسيلة تمكنه من بلوغ هدفه، وترك مكتبة كبيرة من أهم كتب الفكر الإسلامي.

كان الشيخ الغزالي ضد فكرة التكفير، وكان يحترم اجتهادات الأولين وينزل الناس منازلهم، إلا أنّ لكلِّ حصان كبوة. وكبوةُ الشيخ محمد الغزالي رحمه الله -فيما أرى- كانت في شهادته في المحكمة التي نظرت في قضية قتل الكاتب المصري فرج فودة؛ ففي عام 1992، أصدرت "ندوة علماء الأزهر"، برئاسة عبد الغفّار عزيز، بياناً عبر جريدة النور بكفر فودة ووجوب قتله، وبعدها بفترةٍ وجيزةٍ، قام شابان بتنفيذ الفتوى، وعندما جاء دور الشيخ الغزالي للشهادة في المحكمة وصف فودة ب"المرتد"، وأفتى بجواز أن يقوم أفراد الأمة بإقامة الحدود عند تعطيلها، وإن كان هذا افتئاتا على حق السلطة، ولكن ليس عليه عقوبة، وهذا يعني أنه لا يجوز قتل من قتل فرج فودة حسب تعبيره، والغريب أنّ قاتليْ فرج فودة لم يقرآ شيئاً مما كتبه، فأثناء المحاكمة سئل أحدهما: لماذا قتلت فرج فودة؟ فقال لأنه كافر. وعندما سئل من أيِّ كتبه عرفت أنه كافر؟. قال أنا لم أقرأ كتبه. كيف ذلك؟ قال لأني لا أقرأ ولا أكتب. وأمام موقف كهذا فإنّ شهادة الشيخ الغزالي كانت كبوة كبيرة.

الكتابةُ عن الغزالي تحتاج إلى مجلدات، ويكفي ما قاله المفكر محمد عمارة عنه: "لقد أدركت -وأنا الذي سبق ودرست الآثار الفكرية لأكثر من ثلاثين من أعلام الفكر الإسلامي، وكتبت عنهم الكتب والدراسات- أدركت أنني حيال الشيخ الغزالي لست بإزاء مجرد داعية متميز، أو عالم من جيل الأساتذة العظام، أو مؤلف غزير الإنتاج، أو مفكر متعدد الاهتمامات، أو واحد من العاملين على تجديد فكر الإسلام لتتجدد به حياة المسلمين.. أدركت أنني بإزاء جميع ذلك، وأكثر منه وأهم".

وفي 20 شوال 1416هـ، 9 مارس 1996م، توفي الشيخ محمد الغزالي، حيث كان في السعودية يشارك في مؤتمر حول الإسلام وتحديات العصر، فكانت آخر لحظة في حياته وهو يواصل دعوته إلى الله، ويوضح حقيقة الإسلام، ويذب عنه، ودُفن في البقيع بالمدينة المنورة، بجوار الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصحابته الكرام، والأمةُ الآن في أحوج ما تكون إلى دعاة مخلصين، يعملون على جمع شتات الأمة بدلاً من تفريقها.. دعاة مخلصين لا يتبعون الهوى.. دعاة لا يخافون في الله لومة لائم، ولا يفتون حسب الأهواء السياسية أو الشخصية أو النفعية ممّا أدى بكثيرين من شباب الأمة إلى "الإلحاد" بسبب دعاة كهؤلاء، ورحم الله الشيخ محمد الغزالي رحمة واسعة، ففي الليلة الظلماء يُفتقد البدر.

تعليق عبر الفيس بوك