لوحة عُمانية "من الماضي"

 عبيدلي العبيدلي 

أهْدَاني أحد الأصدقاء خلال زيارتي، مؤخرا، لمعرض مسقط الدولي للكتاب، نُسخة من كتاب "صوت من الماضي: من أدب السجون العمانية، من كوت الجلالي إلى سجن الرميس 1973-1985". من تأليف الكاتبين العمانيين: زهران الصارمي وأسعد الهنائي.. عندها صعدت أمامي، بشكل عفوي وتلقائي، صورة ملصق فيلم يحمل نفس العنوان الرئيس للكتاب "صوت من الماضي"، تتقاسم بطولته إيمان، وأحمد رمزي، ومعهم أمينة رزق، وقام بإخراجه عاطف سالم. 

وقصَّة الفيلم تدور حول تنبؤات طفل يرى والدته التي يعشقها في حلم تخبره فيه بثلاث نبوءات "أنه سيتعرض لحادث تصادم في القطار عندما يبلغ الثالثة والعشرين من العمر، وأن أخته ستموت في يوم زفافها لضابط في الجيش، وأنه هو نفسه سيموت عندما يبلغ من العمر خمسة وعشرين عاماً". بطبيعة الحال لم تكن الدراما التي حِيْكت بها أحداث الفيلم متطابقة مع ما أخبرت به الأم ابنها، حيث جاءت النهاية سعيدة بزواج الابن بمن يحبها، التي أنقذته من محاولته الانتحار. 

تفرضُ صورة مُلصق الفيلم نفسها على القارئ عندما يصل إلى "ص:81" من الكتاب، عندما يفاجئه الصارمي بالقول إن قصيدة "ذكريات"، هي أول قصيدة قالها في حياته، "وكان ميلادها في سجن الجلالي، وقد قلتها في ليلة واحدة إثر حلم رومانسي أثار في نفسي ذكريات الحب والوجد والحنين لحبيب غاب عني من سنين، لزوجتي الحبيبة، التي بقيت رغم بعد المسافة التي تفصل بيننا، تصاحبني صحبة الأحبة الكرام في أحلام اليقظة والمنام. حلمتها ذات ليلة في قبلة أفلاطونية طويلة عميقة عنيفة، قمت على إثرها لاهثا منقطع الأنفاس... فكانت هذه القصيدة الخماسية". 

"صورتان من الماضي" الأولى منهما، هي الفيلم يتجاوز عمرها النصف قرن جاءت من القاهرة، وثانيتهما تغادر عقدها الرابع تنادينا من مسقط. 

بعيدا عن تلك الصورة المفاجئة، وعندما تعود إلى الكتاب تبدأ رحلة مختلفة مع قصائده التي -كما تقول المقدمة- "أبدعها الشاعران إبان وجودهما في معتقل الجلالي والرميس". وأمام ما جادت به قريحة الشاعران، وتلك المداخل السريعة المكثفة التي قام بها المؤلف الثاني للكتاب زهران الصارمي لقصائد الهنائي، يجد القارئ نفسه كمن يصيخ السمع، في هدوء وشيء من الرهبة التي تفوح منها رائحة قدسية مميزة، إلى سيمفونية عمانية وضع ألحانها بشكل مشترك الهنائي والصارمي، في عفوية لا متناهية، وعزفاها سويًّا بتلقائية هي الأخرى لا تعرف الحدود. 

تنبع أهمية الكتاب من مجموعة من الخصائص التي تميزه عن سواه من الكتب الأخرى التي تناولت "أدب السجون"، يمكن تلخيصها في النقاط التالية: 

- يتضمن الكتاب بين دفتيه مادتين تختلف كل منهما عن الأخرى لكنهما تتكاملان معا. المادة الأولى هي القصائد التي تعكس معاناة وأحاسيس الشاعرين خلال ما يزيد على العقد من الزمان أمضياه بين زنازين أبراج سجن "كوت الجلالي"، ونظيراتها في سجن الرميس، تتكامل معها القراءة الوصفية، وليس النقدية التي قام بها لتلك القصائد الصارمي، والتي كانت بمثابة الإضاءات التي يحتاجها القارئ كي تصل إلى عقله بعد أن اخترقت فؤاده. 

- خلو القصائد والمادة التي عالجتها من الإشارات المباشرة لما عاناه الشاعران في فترة الاعتقال، مثل التعذيب، والاستغناء عنها بتجليات شعرية تخللتها بعض الصور التجريدية. فليست هناك أية إشارات مباشرة لوقائع الحياة التي قضياها متنقلين بين الجلالي والرميس، وعوضا عن ذلك وجدنا تلك المعاناة مجسدة بين ثنايا أبيات قصائد مثل مناجاة "عصفورة الوادي" التي حطت عند أحد قضبان زنزانة الصارمي، أو عند مخاطبة الهنائي للشرطية البلوشية "أم عصرية". و "أم عصرية" هي وسيلة الاتصال الوحيدة بين الهنائي وأسرته. فقد كانت -كما يقول عنها الصارمي- " من جيران رفيقنا درويش ثاني الخصيبي، وبحكم هذه المعرفة كان يقف معها في سجن الجلالي كلما سنحت له الفرصة، يأخذ منها أخبار أهله، وتنقل لهم أخباره. هذا الإغفال المتعمد لوقائع آلام الاعتقال، لا يمنع الشاعر من إبراز معاناته كما نجده على سبيل المثال لا الحصر في أول قصائد الكتاب، وعنوانها "عيد في السجن"، التي يقول فيها: 

ها أنا اليوم أرى نفسي سجين... 

مودع القيد إلى خمس سنين 

وكذا شأن رفاقي الآخرين... 

نلتقي العيد بقلم مكلما 

كيف لي التماس أفراح بعيد... 

وأنا أرزح من وطء الحديد 

- العفوية التي سادت قصائد الشاعرين، وتقيدت بها معالجات الصارمي، فجاء الكتاب لوحة مختلفة عن السائد في الكتابات الأدبية، بما فيها أدب السجون. وعندما نشير إلى هذه العفوية، فليس المقصود بها التقليل من جمال القصائد، أو حسن معالجة الراصد. فالأمر على العكس من ذلك تماما، إذ إن المقصود هنا عذب نظم القصيد، ورشاقة ريشة الأديب. 

- قصر القصائد ورتابة حركة شخوصها، رغم أن تلك الأحداث جاءت في شكل إشارات تجريدية تتناسب مع جسم الكتاب الكلي. نستثني من ذلك كله القصيدة التي حملت عنوان الكتاب وهي "صوت من الماضي"، التي "ناهزت أبياتها الخمسين"، وهي كما يقول عنها الصارمي الأقرب إلى قلبه، "لأنها عبرت عن زمن جميل أفل، كنت في أحضانه ذات يوم، استلهمت أبياتها من طائر رائع الطلعة كان يأتيني إلى كوة زنزانتي بسجن الرميس". 

- القصيدة المميزة من النواحي كافة، بما في ذلك الظروف التي أدت إلى قولها، هي "كيوبيد أو إله الحب"، التي جاءت ثمرة لقاءات متعددة عبرت جدران سجن الرمسيس، التي كانت تفصل بين السجناء السياسيين -والصارمي واحد منهم- و"قسم السجينات من مختلف القضايا"، وأصبح التواصل بين "الطرفين" يتم عبر كوة في الجدار. أدى كل ذلك إلى قصيدة يقول مطلعها: 

يا إله الحب يا رب الجمال... 

يا براق الروح في دنيا الكمال 

وتنتهي بهاذين البيتين: 

من رحيق الحب من أفيائه... 

ما تراني أحيا منه في خبال 

آه من ذكرى بقلبي ثبتت... 

مثلما تثبت في الأرض الجبال 

"صَوْت من الماضي" تجربة عمانية أصيلة جاءت كلوحة جميلة تستحق التمعن قبل الإعجاب! 

تعليق عبر الفيس بوك