لا تَقصُص رؤياك.. إلَّا السر

راشد الجنيبي

للنفوس أسرارٌ تحويها وتخفيها طَيَّ الكتمان، ولكل طيفٍ سرٌّ ولكل لغزٍ سرٌّ، والأسرار تُحجب وتغطى بعدة براقع؛ فبرقع الستر يخفي سر الفضيحة، وبرقع الحسد يكتم سر العلم، وبرقع الدهاء ليغطي سر النجاح أو سر الوصفة، وبرقع العمل يحفظ سر المهنة وخصوصياته، أي للنفوس أسرارها المختلفة التي تخفيها بحجة أسبابها المُخْتَلِفةِ أيضا، فمن أبجديّات الحذر وبديهيات الوقاية الحذر كلَّ الحذر من بوح السر، وكتمان السر من أصول الحكمة وسمو الوقار، تبين قصص التاريخ أن من الصفات الفاضلة والخصال الحميدة لدى النبلاء من عامة الشعوب هي كتمان السر وتحريم إفشائه، بل ذوو الشهامة والمروءة أقدَرُ على ذلك، وعُرفَ عند العرب قديماً أن من أدنى صفات الشريف هي كتمان السر، بل صدورُ الأحرار قُبورٌ للأسرار.

وفي سباق الإنجاز والوصول ومعترك القوة والنفوذ، يُعتبر بوح السر من السذاجة، بل أمام أي ند أو خصمٍ يقف في وجه المحاربِ في معركة إثبات الوجود يكون الصمت والكتمان سيد الموقف، فإذا حللنا الواقع سنجد أن حياتنا عبارة عن تحديات وصراعات على كل الأصعدة، في الواقع السياسي والواقع الاقتصادي وحتى على الواقع الوظيفي أو بيئة العمل، تجد كل الخصوم تتصارع للقوى وإثبات الوجود، فإذا هُدِمَ حصن الصمت قَبْلَ أن يهيجَ البحر أمام الأنداد والمنافسين الغِلاظ وتناثرت أسرار القُوى أمامهم، بذلك يَعرِضُ المحارب كل أوراقه على خصومه ومصيره أن يكون لقمة سائغة، بل توغل روبرت غرين المتخصص في علوم القوى في هذا الشأن، إلى أن سن قانوناً في كتابه يحرم الثقة الزائدة حتى في الأصدقاء لأنهم يُستَفَزون بسهولةٍ إلى الحسد وقد يصبحوا طغاة، بل حث روبرت على استخدام الأعداء واستئجارهم مصلحةً ليصبحوا أكثر ولاءاً، لَعَلَه آمن بـ "احذر من صديقك قبل عدوك".

نبيُّ الله يعقوب قال لابنه يوسف عليه السلام: "لا تَقصُص رُؤياكَ على إخوتك فيكيدوا لك كيدا" (يوسف: 8) أي بإفشاء نبي الله يوسف لهذا السر سيحتال الإخوة في هـلاكه حسداً لعلمهم بتأويل الرؤية، فقصة يوسف نبي الله لها خيرُ العِبر في فضيلة كتمان السر والذود عن البوح به إلا في الحق، وإذا اعتبرنا وتمعنا نقول: لا تَقصُص وجَعك على إخوتك على الناس على العالم فيكيدوا لك كيداً، لأن قلوبنا وإن كَبُرَت قد لا تطيق الوجع، وإذا عددنا براقع لكتمان الأسرار نضُيف برقع التبسم والتفاؤل لكتمان سر الحزن والتباكي، أو كالرجل العجوز العربي المغترِب للعلاج الذي مر في إحدى طرقات لندن تحت ظل قمر ليلاها والذي كاد أن يقع على الأرض من شدة المرض عندما جيءَ له بالمواساة والمساعدة تمالك قواه حتى قال بفمٍ تملؤه الثقة: لا تَقصُص سر وجَعك فيحزن بذلك الحبيب ويفرح العدو، فأتم مسيره.

... إن إفشاء الأسرار عادةً ما يُطلق مارد الشر ليأذنَ بقرع طبول الخطر، وكل حدثٍ له عواقب، صحيح أن الحياة بلا معتركات وبلا أطماع وبلا مطامح لكشف الأسرار جميلة وسمحة وبريئة وهذا ما تحن له طبيعة البشر بطبيعة الحال وهو الحنين للبراءة والهدوء، لكن قد تُخدش البراءة ويُلزَمُ الحذر، "عرفتُ الشر لا للشر ولكن لتوقيهِ" أبي فراس الحمداني، وإن تعكرت الرياح وبدأت العواصف وأُعلِنَ الخصام فالبُعد كل البعد عن الفجور في الخصومة، فمن نواقض عهود الوفاء والشرف البوح بأسرار الأخ أو الصديق أو الخليل وخيانته بمجرد الخلاف، بل في أسوأ الحالات والتقلبات لَزِمَ السمو بالثباتُ على المبادئ، كما قال المتنبي واصفاً القوي: وحالات الزمان عليكَ شتى وحالكَ واحدٌ في كل حالِ.

Rashidhj1139@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك