المعلمة إنهيش: كم تفتقدك مدارسنا وجامعاتنا !

د. سيف بن ناصر المعمري

فبراير لا يزال شهر يأتي خلسة ويمضي خلسة دون أن يشعر به ..ورغم قصره وسرعته إلا أنّه يحتوي أحداثاً مهمة منها الاحتفال العام بيوم المعلم.. وكذلك معرض مسقط الدولي للكتاب، وكأنّه كتب على مثل هذه الأحداث أن تأتي متزامنة في شهر يجري ونحن نجري وراءه حتى نحاول أن نفهم حقيقة ارتباطه بالعلم والثقافة أكثر من غيره من الشهور، لكننا لا نتمكن .. وننتظر عاماً آخر لكي نُكرر المحاولة، وتضغط علينا الأسئلة الكبيرة، أين هي قيمة المُعلم في مجتمعات توصي أبناءها بالا تلتحق بالتعليم إلا مضطرة؟ وأين هي قيمة الكتاب في مجتمعات لا تقرأ إلا ست صفحات في العام؟ وأين هو السبيل للخروج بهذه المجتمعات إلى الحياة المُنظمة التي تتزايد فيها فرص الإبداع والإنجاز؟ هذه الأسئلة وغيرها تقفز إلى ذهني باستمرار وتزداد وطأتها في فبراير الذي لم أحد منه- وهو الشهر الذي يحمل في أيامه نسائم الربيع، ويختزن فيها رائحة المطر، ويفتح الفضاء للأرواح والكلمات للتحليق بكل آلامها وأفراحها، وتساؤلاتها الوجودية.

المُعلم والكتاب هما مفتاح أيّ تقدم حضاري، فعندما تمتلك البلدان مُعلمين ذوي كفاءة يشعرون بقيمتهم، ويمنحون قدسية لا يحصل عليها أحد سوف يمهدون الطريق لأجيال لتعبر بسلام إلى الحياة المُعقدة التي تزداد فيها وطأة المادة، وتتدهور فيها الأخلاق، ويجد الإنسان نفسه محاطاً بقيود وأغلال يحتاج إلى أدوات تساعده على التخلص منها، وعندما يصبح الكتاب هو الخبز اليومي الذي نقتات عليه سينشأ جيل مُفكر يقود عملية النهوض بالمجتمع وإيقاظ روحه النائمة في هذه المرحلة التي يسود فيها عدم يقين حول أشياء كثيرة، وتفقد كثير من الأشياء قيمتها، ويصبح التعليم هو الطريق الصعب الذي لا يمكن أن يمضي فيه إلا أولئك الذين آمنوا به، ولديهم القدرة على مقاومة كل هذه التَّحديات من أجل أن يساعدوا الطلبة على إيقاظ إمكاناتهم وقدراتهم التي يمكن- لو لم تجد من يوقظها- أن تتسمر في سُباتها ويحرم الفرد من الارتقاء بنفسه وحياته.

إنني مؤمن أن "المُعلمة إنهيش" التي أهديت لها كتابي "التعليم: إيقاظ الروح النائمة"، وهو أحد كتب مجموعة فضاءات المواطنة والتنمية المكونة من خمسة كتب والتي أوقعها يوم الإثنين، أنها أحد هذه النماذج المُشرقة للمعلمين الذين عملوا بروح مُتجددة، وبقلب مخلص، وبفلسفة تقدمية لمفهوم التعليم تتفق مع تلك الفلسفة التي عبّر عنها فلاسفة التعليم الكبار مثل جون ديوي وباولو فيريري وكلايف هاربر، وأكد عليها المعلم الأول الذي تحدى الظروف والواقع وقال المهم هو التعليم "سنُعلم أولادنا حتى لو تحت ظل الشجر"، هذه المعلمة التي تستحق أن يهدى لها هذا الكتاب تكريماً لها في يوم المعلم، لأنّه لم يلتفت إليها أحد يومًا، رغم كل الأيام والسنوات التي قضتها في الحقل التربوي، ورغم كل الجهد الذي بذلته في التنوير التربوي، بل إنّها في إحدى السنوات قيل لها بعد أن تمّ تكريم مُعلمات من مدرستها لا يتمتعن بنفس كفاءتها في الارتقاء بمستوى طالباتهن، "أنت الأفضل لكن التكريم له معايير أخرى"، أهدي لها هذا الكتاب لأنّ كل هذا لم يؤثر على إيمانها بدورها كتربوية، وأنها واصلت عملها، وعملت على تحويل مثل هذه المُمارسات إلى نقاط قوة، بل إنها عندما قامت مشرفتها - التي حصلت على إشادات مُتعددة بسببها- بوضع العراقيل لها، لم تدع اليأس يحطمها، ولا مثل هذه التصرفات تقتل دافعيتها، بل واصلت مسيرتها حتى تحافظ على نقاء هذه المهنة التي لا يمكن أن تكون المجتمعات سليمة ولا نقية بدون نقائها.

إنّ النموذج الذي قدمته المُعلمة أنهيشفي عملها التربوي يستحق أن يكتب عنه اليوم في ظل الظروف التي تمر بها القيم العملية على مختلف الأصعدة، وفي ظل المنعطفات التي يمر بها التعليم، الذي يحتاج اليوم أكثر من أيّ وقت مضى إلى "المعلمة إنهيش" ومن هو يعمل بنفس فلسفتها، وإخلاصها، ودافعيها، لقد أشرفت على إحدى رسائل طالبات المعلمة "إنهيش"، وعرفت منها كيف جعلت هذه المعلمة من التدريس علمًا وفناً، وكيف أنّها أقامت جسوراً للطالبات الضعيفات للوصول إلى مستوى الطالبات المتميزات، كانت تؤمن أنّ الجميع له الحق في التميز، ولذا لم يكن غريباً أن تحقق طالباتها أعلى نتائج في محافظتها وأن تصل كثير منهن إلى الجامعات والكليات، كيف حدث ذلك؟ وكيف عملت هذه المُعلمة على إيقاظ الروح في هذه الدفعات المتعاقبة من الطالبات؟ الإجابة أنّها كانت تؤمن بأنّها صاحبة مهنة عظيمة ..وأنها كانت تبحث عن تحقيق رضا داخلي قبل أن تسعى إلى تحقيق رضا خارجي.

إنّ كتاب "التعليم إيقاظ الروح النائمة" الذي أهديه إلى المعلمة "إنهيش"، به رسالة واضحة وبسيطة هي لن نتمكن من إحداث نقلة في مدارسنا بدون نماذج من أمثال المُعلمة أنهيشالتي أكرمها في هذا الكتاب بعد أن تمّ استثنائها من التكريم لسنوات طويلة تقديراً للمدرسة التربوية التي أطرتها بممارستها المُتفانية التي غيّرت بها حياة كثير من الطالبات اللاتي سيظل اسمها منقوشاً في ذاكرتهن للأبد، وأكرمها بإهداء هذا الكتاب لأنّها قاومت كل التَّحديات التي واجهتها في مسيرتها ..ولا يمكن أن يكون التربوي ناجحًا إلا إذا امتلك إرادة صلبة لا تكسر، وعزيمة لا تُهزم، إن مجتمعاتنا لن تكون قوية إلا بالمُعلمين والمعلمات الأقوياء، وآن الأوان لنفتح ملفهم ونبحث عنهم ..لأنّهم يحملون مشاعل النور، وبيارق الأمل للمستقبل الذي نرقبه أن يكون كما نُريد.

تعليق عبر الفيس بوك