لحظة موت مُبكر

عُهود الأشخريَّة

مدخل:

"كأن كل شيء ينذر بفجيعة ما

حشرجات الطير، براكين الكواكب،

شجر الصمت انحنى، جفّ، ذبل. نذير مخلوقات بائسة

تأتي من رماد الشمس"

(من نص لسماء عيسى)

(ماه .. مااااه ... مااااااااه... ماااااه .. تسمعيني ماه؟ قومي .. ماااه .. م...)

في الثانية صباحا في المستشفى، كانت فتاة ربما في العشرين من عمرها، تصرخ منادية والدتها التي يتضح لي وأنا في الغرفة المجاورة لهم أنها فقدت الحياة.

هذا المشهد لم يغب عني لأيام طويلة، كنت أشعر بما تشعر به تلك الفتاة التي تقيم مع والدتها في غرفة صغيرة وبيضاء، (بيضاء جدا)، لكن حتما هذا البياض لم يكن ليفعل شيئا في وجه الموت الذي فرض نفسه تلك الليلة، وأخذ روح الوالدة التي تحرسها ابنتها، كانت تحرسها من الوحدة والألم والبكاء والسهر، لكنها أخيرا وبدون إرادة تركتها للموت التي لم تكن تعلم إن كان سيحرسها أو لا، فصرخت حتى تحول ذلك المكان كله إلى صدى صوتها.

قاتلٌ هو، مَوْت من نحب مهما آمنا بجدوى الموت حين نقارنه بهذه الحياة التي لا تؤدي إلى شيء، قاتلٌ ومؤلم أن يأخذ منا الروح الأولى، والحب البكر الذي لم يغيره الزمن ولا الظروف علينا، والذي لم يؤثر على مستواه وجود الآخرين لأنه حتما لا مساس لا مساس.. حب مقدسٌ أكثر من القداسة ذاتها.

في ذلك المشهد، كنتُ أقول في نفسي إننا ربما كنا سنفعل الكثير لو يتأخر الموت ساعة واحدة، ساعة واحدة تكفي لنقنع الموت بتأجيل موعده إلى وقت آخر وبعيد، ساعة تكفي لنقف أمام تلك الروح ونصلي لها صلاة حبٍ ليست أخيرة بالطبع، ساعة تكفي لنقول كلاما كالقصائد كفيلا بأن يجعل الوقت يتمدد أكثر وأكثر، ساعة تكفي لنتواعد أننا سنلتقي مجددا وفي مكان آخر، في العالم الآخر؛ حيث لن نترك بعضنا مجددا. ساعة تكفي لنهرب قبل الموت وقبل الألم إلى النسيان.

تنظرُ إلى وجه والدتها غير الواضح في تلك اللحظة الضبابية لربما من فرط النور أو من فرط الحزن، كانت الفتاة تحتاج تلك الساعة لربما ستقول لوالدتها: وجهكِ كنيسة قديمة، يدخلها الملائكة والقديسون بحثا عن السلام، وجهكِ مسجدٌ تسكنه صلوات كثيرة وجراح كثيرة، وجهك غير واضح إلى هذا الحد فلا تتركيني تائهة إلى الأبد! بل لتقول إنها تحتاج للكثير من الوقت والقليل من الموت.

مرة أخرى بعد أن تردَّدت كل هذه الأفكار في رأسي عاد صوت الفتاة: (ماااه... ماااااااه.. ماااااه.. مه.. مه)، لكن هذه المرة أقل قوة وأكثر حزنا وانهيارا، وكنت أنا أصرخ في داخلي أيضا.. ماذا لو كانت ثمة معجزة يمكن أن تنقذها؟! لكن هذا لم يكن ليحصل بالطبع.. الفكرة تشبه كثيرا فكرة فيلم "طائر أبوالحناء" حين مات طفل بسبب أحد أصدقائه، فذهب ذلك الصديق (المذنب) للبحث عن معجزة يُمكن أن تعيد الميت إلى الحياة، لكنه لم يفلح واقتنع أخيرا بأن الميت لا يمكن أن يعود إلى الحياة لأنه لا يوجد أي دواء لعلاجه؛ ذلك لكونه لا ينتمي إلى الأمراض، لكنه شيء مختلف تماما، يشبه الذي يقرر أن يذهب إلى سفر بعيد ولا يعود منه أبدا. لكن الفرق أن الموت لا يمكن أن نقرره مثلما نقرر السفر.

نزيه أبوعفش يقول: "نحتاج إلى أقل من هذا الموت الذي يتدفق من السقوف والأرائك والمصابيح". إن هذا المقطع يشبه تماما حالة موت من نحبهم، سنشعر أن الموت يتدفق من كل التفاصيل الصغيرة والكبيرة، أماكن جلوسهم، كتبهم، ألوانهم المفضلة، سجادة صلاتهم، أحلامهم المؤجلة وأحلامهم التي تحققت.. كان موتنا نحن سيتدفق في القلب، الموت اليومي الذي لا يتوقف في الألم الذي نشعر به، والتساؤلات الكثيرة التي لن تنتهي بانتهاء البكاء، والانتظار الطويل الطويل.. مثل انتظار فتاة صغيرة لوالدها الذي ذهب لساحة المعركة ولم يعد منها، كانت تنتظره أن يخرج من الأرض على هيئة أخرى، مثلا وردة جوري صغيرة أو طائر أزرق يبني عشه فوق بيته الأول.

Ohood-Alashkhari@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك