القراءة بين حدود صبر القارئ والناقد!

ليلى البلوشيّة

منذ عدّة أيام كتبتُ تعليقاً في صفحتي على الفيسبوك عن رواية عربية مرشحة لبوكر أقول فيه: أقرأ الآن إحدى الروايات البوكرية المرشحة للقائمة القصيرة، وصلت صفحة خمسين وحتى الآن لا مفاجآت ولا ألاعيب ولا غموض، استرسال عادي وفضفضة في ذكريات الماضي، أسلوبها شبيه بروايات قديمة كانت تتكئ على السرد الشعري، هذه الموجة التي تأثر بها كثير من الكتّاب الشباب منذ أعوام، لست ضد الاسترسال الشعري ولا استدعاء ذكريات الماضي بأسلوب بهت قليلا في وقتنا الحاضر، زمننا زمن حروب وفتن ورقابة وملاحقات أمنية وتضييق الفكر إلى غير ذلك، في مثل هذا الزمن أنىّ للقارئ الصبر على ملاحقة ذكرياتك المحفورة في قاعك أيها الروائي؟

لن أذكر اسم الرواية، فأنا لم أنهها بعد، وقد يكون حكمي غير منصف، فخمسين صفحة من أصل 424 صفحة تستحق منا كقراء إلى نوع من الإنصاف وعدم استباق الأحكام، وما كتبته أعلاه هو انطباع شخصي راودني خلال قراءة الصفحات الأولى من الرواية، وظل معي حتى الصفحة خمسين ولعله يتلاشى ويطعن ظنوني في الصفحات القادمة!

إلى هنا ينتهي تعليقي، أجل، لقد قضيت يومين كاملين في قراءة هذه الرواية، والتي للأسف لم أستطع انهاءها لأسباب عديدة، فأحيانا عدم إنهاء قراءة كتاب ما هو خلل فينا و ليس في الكتاب، عطب ما في أمزجتنا، فحتى القراءة تحتاج إلى مزاج جيد للقراءة، هناك كتب أطالعها في أوقات معينة حين يكون فيها ذهني صافيا؛ كي لا أبخسها حقها، هي كتب معقدة يلزمها وقت جيد ومزاج رائق، كما يمكن لبعض الكتب أن تمتص أثناء قراءتنا لها مزاجنا السيء بسردها الآسر، هذه الكتب هي دواء يشفي علل الروح، الكتب التي نكون ممنونين لها ولمؤلفها لوقت طويل، سيكون أيضا هو الكتاب الذي سيتصدر قائمة توصياتنا المحبة بتعبير - هنري ميللر - للآخرين، فعلى الرغم من حرصي التام و سعيي الجاد كقارئة على أن أكون منصفة في حقها، ومن باب تدريب نفسي على الصبر حين أجدني أمام رواية تهتم بزخرف اللفظ أكثر من المعنى، ولكن أيضا لصبر القارئ حدود! بعد تيقّني بأنني لن أستطيع إكمالها تكثّف لديّ أثناء إزاحتها بعيداً عن مرمى يديّ شعور بالضيق؛ لأنه على الرغم من كل الجهود التي بذلتها لإقناع نفسي لم استطع إتمامها، وهي عادة لا أحبها شخصيا أثناء قراءة أي كتاب، عادةً لا أريدها أن تتمدد معي، ولا أريدها أن تكون طبعاً من طباعي، عادةً مخيفة، عادةً مدمّرة، أريد أن أبدّدها عن عالمي القرائي نهائياً، حدود صبري الذي يصل لحد مئة صفحة ويتجاوزها غالباً وتجاوزتها مع هذه الرواية التي أتممت منها 170 صفحة، و لا يقل عن هذا المعدل حين أجدني أمام كتاب أُمنِّي نفسي على إنهائه، ولا يمكن أن استوعب حدود الصبر عند بعض الكتّاب والنقّاد خاصة، وسأترك القارئ جانبا هنا، فمسألة القراءة عند معظم القراء هي تلقي دفعة من المتعة في الدرجة الأولى ويتجاوزون عادة المسائل الأخرى طالما حقق الكتاب غرضه من المتعة السردية، لكنها عند الكاتب والناقد هي ليست للمتعة وحسب بل تبحُّر في عالم الكتاب وأسلوبه ولغته وفكره، هي عملية اكتشاف النص وإعادة كتابته من جديد عبر دراسته، فالناقد الذي على عاتقه مسؤوليات تجاه الكتب مهما كانت أنواعها طالما هي من اختصاصه، لا استوعب أنه فصّل ذوقه على حدود الصفحات الأولى من الكتاب وعلى حدود المتعة، بل إنّ بعضهم يتمادى حين يقف على حدود ثلاث الصفحات الأولى من الكتاب؛ ليبصم حكمه النهائي!

كم من كتب خدعتنا في إطلالاتها الأولى ثم سرعان ما سلمتنا لأسرارها رويدا رويدا! كم من كتاب سلبت الصفحات الأولى منها لبّنا ثم سرعان ما وجدنا أنفسنا في فخّ حكاية مترهلة في نهاية فصولها، فنهجرها مع إحساس بخيبة أمل!

لهذا أتساءل بغرابة كيف يمكن لناقد مسؤول ومختص أن يحكم على كتاب من صفحاته الأولى دون أن يدِّرب صبره لحدود أعلى وأبعد من ذلك.؟!

مسألة الإنصاف أراها مهمة حين نحكم على الكتب، فالإنصاف هو أن نضع في اعتبارنا جهد الكاتب، خياله، فكرته، لغته، أسلوبه، حبكته، تجربته النفسية، والوقت الذي قضاه لكتابة عمله، كثير من الكتب لا تعجبنا لكنّها أيضا عميقة، عديد من الكتب نقرأها بثقل لكنها غنية بالمعلومات، هناك كتب أتممناها لشعورنا بالجهد الذي بذله الكاتب في كتابه، وهناك كتب نقرأها؛ لأنها عبارة عن قاموس مصغر من الألفاظ الرشيقة التي تمنح لغتنا جمالا، وأخرى توّسع من حدود خيالنا، وكتب نقرأها لأسباب نجهل عن تفسيرها حتى لأنفسنا.

لتكن القراءة تحدّيا لنا نختبر من خلالها قدرتنا على التحمُّل لا لمجرد المتعة، لتكن القراءة اختباراً لحدود صبرنا لا نكتفي منها لاكتساب ثقافة وحسب، لتكن القراءة كل ذلك و أكثر لنربو مصاف القارئ الجيّد، القارئ السوبر. إنه حُلمي، فهل هو حُلمكم أيضا؟

Ghima333@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك