الصراعات والوئام في جزيرة العرب

د. سليمان المحذوري

احتضنتْ مسقط "أسبوع التقارب والوئام" الخامس، خلال الفترة 14-17 فبراير الجاري، تحت مظلة مركز السلطان قابوس العالي للثقافة والعلوم؛ ولعلَّ هذا الحدث يأتي في خضم ما تشهده المنطقة العربية من شِقَاق ونزاعات أكلت الأخضر واليابس، وألقت بظلالها على البنية السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية للمنطقة ككل.

أستعيرُ العنوان أعلاه من عنوان كتاب الشيخ علي بن محسن البرواني الموسوم بـالصراعات والوئام في زنجبار، مع التشابه بين الظروف السياسية في زنجبار (خلال القرن المنصرم) والوطن العربي اليوم؛ رغم أن المشهد هو صورة مكررة لتقسيم الوطن العربي مع نهاية الدولة العثمانية كتركة بين القوى الاستعمارية من خلال اتفاقية سايكس بيكو عام 1916م، ووعد بلفور عام 1917.

ولا شك أنَّ الإعلامَ له دور فاعل في تحقيق التقارب والوئام، وله دور كذلك في التباعد والشقاق؛ وهذا ما نلاحظه -وبوضوح- في الصراعات الدائرة في اليمن وسوريا والعراق وليبيا -والتي لا يعلم نهايتها إلا الله- من تأجيج للفتنة وبث الكراهية أو اقصاء الآخر من خلال تجييش العواطف عبر ما يبثه إعلام مشبوه يؤدي إلى صبِّ النار على الزيت، والأدهى والأمر أن بعض المؤسسات الدينية تقوم بالدور ذاته بغض النظر عن الاعتبارات الإنسانية والمبادئ والقيم.

وبالتالي.. وبقصد أو جهل، تعمل هذه الأبواق على تنفيذ المخططات الرامية إلى تمزيق البلدان العربية إلى كينونات مُتناحرة، وطوائف وفرق ما أنزل الله بها من سلطان. مع العلم بأن هذه البلدان كانت تعيش في سلام ووئام فما الذي حدث يا ترى؟ ولماذا تحول المشهد إلى ما هو عليه الآن؟ ولعل الإجابة إذا ما نحينا نظرية "المؤامرة" جانباً تكمن في "السياسة" واختلاف المصالح، رغم أن المستفيد هم السياسيون، والخاسر الأكبر الشعوب، وعلى حدِّ تعبير الإعلامي عبدالباري عطوان في الأمسية الجماهيرية التي أقيمت بقاعة المحاضرات في الجامع الأكبر مساء يوم الثلاثاء 16 فبراير "إذا تصارعت الفيلة تكسرت الحشائش". ويبدو هذا واضحاً للعيان ولا يحتاج إلى برهان؛ فالصراع في سوريا أو اليمن على سبيل المثال من الذي يدفع فاتورته أليس الشعب والمواطن البسيط؟ من تجويع وتشريد وتهجير، كما أن القوى المُتنافسة تتصارع في أراض عربية وبأيدٍ عربية وأموال عربية... فأي خسارة أعظم من هذا؟!

إنَّ تكريسَ الطائفية في المنطقة لا يخدم إلا أجندات غربية؛ همُّها أن تبقى البلدان العربية مقسمة ومجزأة؛ بل وتقسيم المقسم، وتفتيت المجزأ؛ ليسهل قيادتها والتحكم في قرارتها ومُقدَّراتها في آن واحد على شاكلة القاعدة الإنجليزية "فرِّق تسُد"؛ وللأسف الشديد أثبتنا أننا لا نقرأ التاريخ ولم نتعلم الدرس أبداً، أو بالأحرى لا نريد أن نتعلمه، ورغم أنَّ الحكمة العربية تقول: "لا يُلدغ المرء من جحر مرتين"، ولكن هيهات فالمصالح الشخصية تعمى البصر والبصيرة حتى وإن أدت إلى بيع "الوطن" للأجنبي مقابل تحقيق مآرب آنية رخيصة.

وتأسيساً على ذلك، وفي ظل الظروف الراهنة والانفلات الأمني وما صاحب ذلك من انفتاح إعلامي وزيادة سطوة وسائل التواصل الاجتماعي التي أسماها د.أنور الرواس بـ"السلطة الخامسة"؛ وانتشار الرؤى والأفكار انتشار النار في الهشيم الأمر الذي عزَّز "الفوضى الخلاقة"، وما ترتب عليها من فوضى سياسية وإعلامية غير مسبوقة، ومن ثمَّ وبدعوى الديمقراطية أو الحرية أطلت علينا جماعات ارهابية مشبوهة تدس السم في العسل باسم الإسلام، والإسلام منها بريء؛ وبالتالي ومن خلال هذه الوسائل استطاعت أن تجد لها طرقاً لتمرير أجنتدها وتعيث في الأرض فساداً وتعبث بأمن الأوطان.

ومما من شك أنَّ السلطنة جُزء لا يتجزَّأ من هذا العالم المحيط تتأثر وتؤثر، وفي هذا الإطار ذكر د.سيف الهادي في ورقته بأن الإعلام الديني في السلطنة لا يتطرق أو يلتفت إلى مسائل الطائفية أو المذهبية، وأضاف بأنَّنا لسنا بحاجة إلى بث برامج تهدف للتعايش بين المذاهب؛ لأن تركيبة المجتمع العُماني وثقافته تساعد على هذا الأمر، كما أنَّ هناك إشادة دولية بالتعايش والوئام بين مختلف المذاهب في السلطنة؛ إلا أنَّه لا ينبغي علينا أن نركن إلى الصورة الوردية التي يبدو عليها الإعلام العُماني، ونفرح بهذا المديح والإطراء الذي قد يكون مبالغاً فيه أحياناً وله أهدافه. والمثل العُماني يقول "إذا تحسن جارك بل" فكم من بلدان كانت مثالاً للتعايش المذهبي والطائفي، أصبحت قاعاً صفصفا بين عشية وضحاها. وفي تاريخنا العُماني ابتلينا بالصراعات القبلية التي أهلكت الحرث والنسل؛ فالطوائف والفرق والمذاهب موجودة في كل زمان ومكان، ولا يُمكن بأي حال من الأحول أن يكون الناس على مذهب واحد أو ملة واحدة، ولكن هذه النزعات تبقى كالجمر كامنة تحت الرماد، وتشتعل فوراً متى ما وجدت من ينفخ فيها.

ومع هذا، فهل نحن في حاجة إلى العودة إلى المربع الأول؟ ونطالب بالرقابة على الإعلام أو كما قال غسان بن جدو خلال الجلسة الحوارية المُشار إليها "بسبب ما يجري حاليا، أتمنى عودة الإعلام المسؤول رغم أنني كنت أعتقد أنه أداة لقمع الشعوب". كما أنه من الصعوبة بمكان فرض الرقابة على الإعلام المفتوح. وفي هذا الصدد ذكر د.عبدالله الكندي عميد كلية الآداب بجامعة السلطان قابوس نحن بحاجة إلى تعظيم الإيجابيات لهذ الوسائل، ولا نستطيع منعها ومن يفعل ذلك سيقف مكانه بينما سيواصل الآخرون مسيرهم".

وختاماً.. وفي ظل هذه الظروف العصيبة، بتنا في أمسِّ الحاجة إلى صوت العقل والحكمة من خلال إعلام مهني وموضوعي يكرس مفاهيم التقارب وبغض النظر عن الاختلافات التي لا ينبغي أن تؤدي إلى خلافات حتى لا تنتقل هذه الأمراض الطائفية الفتاكة التي ابتلينا بها للأجيال القادمة.. وقانا الله شر الفتن ما ظهر منها وما بطن.

Abu-alazher172@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك