هيكل .. مُعلِّم الأجيال

حاتم الطائي

المِهنيةُ والانضباطُ والشَّغفُ، ثالوثٌ أوصلَ مُحمد حسنين هيكل إلى ما هو عليه قبل رحيله نهاية الأُسبوع المُنصرم عن أكثر من تسعين عامًا، قضى مُعظمها في بَلاط صاحبةِ الجلالةِ، ترقى في مدارجها من مراسلٍ وصولاً إلى رئاسة تحرير الصحيفة العربية الأبرز وهي الأهرام، وفوق هذا كاتب مُخضرم ظلَّ الحرفُ رفيقَ دربه حتى اللحظات الأخيرة من عُمرٍ أفناه عشقًا في الكتابة..

انحاز هيكل للصحافةِ، وفضَّلها على بريق المناصب التي أتته طائعةً إلا أنّه تَحصَّن منها في عرين مِهنته.. وقال في هذا الصدَّدِ عبارته الخالدة: " أنا صحفي يعمل بالسِّياسة، ولست سياسياً يعمل بالصحافة" وهي مقولةٌ تُجسِّد مدى تمكُّن حب الصحافة منه، وجريانها في عُروقه مجرى الدَّم..

لن تتوارى سيرة مُعلِّم الأجيال وعميد الصحافة العربية بامتياز، مع مواراته الثَّرى، بل ستُشكِّل وفاتهُ سانحةً لاستخلاصِ الدروس والعِبر التي نستلهمها من الحياة الحافلة لهذا العِملاق، فهيكل هو الاسم العربي الأكثر شُهرةً على مستوى العالم، حيث لم يكن صحفياً فقط بل كان مفكراً من طراز رفيع، وقدوة للصحفيين والمُفكرين والمُبدعين.. ونموذجاً صحفياً عالي القدر، شامخ المكانة، ثري الثقافة، ورائداً لمدرسة صحفية مُتفردةٍ ليس على مستوى مِصر وإنّما على مستوى العَالم العربي أجمع .. وقلَّما يتوافر إجماعٌ عربيٌّ على شخصيةٍ بقدر الاجتماع على شخصية هيكل، من قِبل مُعتنقي مختلف الآراء السياسية والمشارب الفكرية، الذين يُجمعون على أنّه الشخصية الإعلامية الأهم في تشكيل وجدان وثقافة أجيالٍ صحفيةٍ عديدةٍ..

وهذه الشَّخصيةُ نتاج لسنوات طويلةٍ من التحصيل العلمي، والمُمارسةِ العَمليةِ التي بدأها باللغة الإنجليزية في جريدة "إيجبشيان جازيت" خلال فترة الأربعينيات من القَرن العشرين، وعمل خلال الحرب كمراسلٍ حربي.. وتُعد هذه بداية تكوينه المهني..

وفي أواخر الخَمسينيات اختارته عائلة تقلا مالكة جريدة الأهرام ليكون رئيسًا لتحريرها ليُعيد لها الحياة وينتشلها من أزمتها المالية آنذاك، وقد كان أن ارتقى بها هيكل لتكون أفضل الصُّحف العربية وقتذاك، ليس فحسب بل نجح في إرساء قواعدَ مَدرسةٍ صحفيةٍ جديدةٍ مُتفردةٍ تجمع بين الخَبر والتَّحليل الرَّصين الذي يَعتمِد على المَعلومة المُهمةِ والموثقةِ وبِلغةٍ رصينةٍ راقيةٍ تتجاوز الكلاسيكيةِ العربيةِ المُتخمةِ بالتعابير المُستَهلكةِ والإنشائيةِ الخاليةِ من المضمون..

وفي عَهدِ الرَّئيس المَصري الأسبق جمال عبد النَّاصر، لمع نجم هيكل كمُحللٍ سياسي يمتلك قدراتٍ استشرافيةٍ، ومَلكةٍ فَريدةٍ في استقراء الأحداث والخلوص إلى نتائج منطقيةٍ، كلُ هذا جَعلَه قريبًا من مراكز اتِّخاذ القرارِ في عهد عبد النَّاصر، إلا أنّ ذلك لم يخِل بالتزامه تُجاه الصحافةِ، بل وعندما عيَّنه عبد الناصر وزيراً ذات يوم رفض هيكل بكل إباءٍ انحيازًا لمهنته..

وممَّا أسهم في تفرُّد شخصية هيكل، أنّه كان من نسيجِ جيلٍ حالمٍ بالحرية والاستقلالِ والكرامةِ وبناءِ وطنٍ حُرٍ .. جيلُ حمَل مشروعاً حضارياً للبناء، وأنجز مشاريع عظمى منها بناء السَّد العَالي وتأميم قناة السويس ومجانية التعليم والإصلاح الزراعي والصناعات الثقيلة وغيرها من مشاريع طموحة في إطار التحرَّر من الاستعمار، ولبناء مصر الرائدة في أمتها .. أنجز كل هذا في ظروفٍ إقليميةٍ ودوليةٍ غير مواتيةٍ .. وواجه في سبيل ذلك نكسات ومنها نكبة 67 والعدوان الثُّلاثي، إلا أنّ جيل عبد الناصر وهيكل تغلَّب عليها بمُضاءِ العزيمةِ وقوةِ الإرادةِ التي لا تُقهر..

وبرحيل عبد الناصر، بدأ فصلٌ جديدٌ من ملحمةِ حياةِ هيكل، حيث اضطره الرئيس مُحمد أنور السادات إلى ترك منصبه في رئاسة تحرير الأهرام عام 1974، إلا أنّ هيكل ظلَّ يُمارس نَشاطهُ الصَحفي بحماسٍ مستفيداً من علاقاتِه الواسعةِ على مستوى العالم.. حيث عُرف بصداقاته مع الشَّخصيات العالمية والسياسية المَعروفةِ مثل المُناضل تشي جيفارا وفيدل كاسترو ونيلسون مانديلا وآية الله الخميني والرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عَرفات وجوزيف تيتو ولال جواهر نهرو ونيكيتا خروتشوف وغيرهم من زعماء العالم.. والذين اشتهر بحواراتهِ الألمعيةِ معَهم والتي ضمنها في كتاباته العديدة..

ما يهُم الجيلُ الصحفيُّ الصَّاعد في سيرة هيكل، هو التَّركيز على قِيم العملِ الصَّحفي التي نذَر لها الكاتب الأشهر حياته، ووضعها نُصب عينيه في كافة مراحلها، هذه القيم تتمثّل في ما ذكرناه في مُقدمة هذا المقال وهي: المهنية والانضباط والشَّغف، وهي تشكل أضلاع مثلثٍ متساوي الأضلاع بحيث إنّ أيّ منها لا تقل أهمية عن الأخرى .. وفيها يكمُن سر وصفة النجاح المهني، في ظل وجود عوامِل مُساعدة أخرى كالاطلاع المُستمر والبحثِ والتَّقصي للمعلومة وتوثيقها .. وفي هذا الصدَّدِ، كان هيكل مُثقفاً موسوعياً، وهكذا ينبغي للصحفي أن يكون مُلماً بالتاريخ والجغرافيا وطبائع الشُّعوب ومُتغيرات السياسة الدولية ومتابعاً لكل ما هو جديد..

وفي وصيته الأخيرة لصحفيي الأهرام في لقاء جمعه معهم ديسمبر الماضي بمناسبة الاحتفال بمرور 140 عاماً على تأسيس الصحيفة، قال : "الخبر الصَّحفي مازال مِلكاً متوجاً على رأس فنون العمل الصحفي" وهذا درسٌ مستفادٌ في غاية الأهمية، لذا على الصحفيين إيلاء المزيد من العناية بهذا الفرع الرئيس من فنون العمل الصحفي، والاهتمام بالسبق الصحفي، فصحافة بلا خبر هي قطعاً ليست صحافة، وإنّ مُعظم ما يُتناقل من أخبارٍ عبر شَبكاتِ التَّواصل الاجتماعي يفتقد إلى المصداقيةِ ورصانةِ الأُسلوب والحبكةِ الصحفيةِ، التي تضفي على الخبر سِمته المُميزة..

وهناك الكثير من الدروس والعِبر التي يُمكن أن نتعلَّمها من سيرة هيكل ومسيرته العملية، ولكن يظل حُبّه وإخلاصه وعطاؤه للمهنةِ هو الدرسُ الأساسيُ الذي ينبغي أن يستصحبهُ كلٌ من يعمَل أو يعتزم العملَ بالصحافةِ.