رحم الله النبّاش الأول!

زاهر بن حارث المحروقي

مرت خمس سنوات على ما أسماه البعض "الربيع العربي"؛ ولكن قبل الخوض فيما وصلت إليه الأمور في الوطن العربي، لا بد من الإشارة أولاً أنّ المواطنين العرب الذين تحركوا في الساحات كانوا مدفوعين بهدف نبيل، هو القضاء على الفساد المستشري والبحث عن الإصلاح والتغيير والكرامة المفقودة، ولإيقاف حالات الاستبداد والتوريث، وغيرها من تراكماتِ عقود طويلة أدت بالسوس أن ينخر كلَّ مفاصل الدول، وهي مطالب عادلة ومشروعة؛ ولكن هل تحقق للناس ما من أجله ثاروا واعتصموا في الساحات؟، وهل الوضع في الوطن العربي الآن أفضل حالاً من قبل أم أنّ الأمر أسوأ؟!

ما حدث في معرض القاهرة الدولي للكتاب، يعطي صورة عن الوضع في بلاد الربيع العربي، حيث وصف الكاتب أحمد إبراهيم الشريف في صحيفة "اليوم السابع" المصرية ما حدث بأنه كارثة، إذ أشعل الليبيون بشقاقهم واختلافهم معرض الكتاب أكثر من مرة؛ ففي ندوة "الوفاق الوطنى آمال وتطلعات"، تراشق الجمهور والمنصة المشارك فيها عبد الحفيظ غوقة وعاشور شوايل الاتهامات بالخيانة، حتى تدخّل الأمن المصري لينهي الأزمة، وحدثت مشاجرة أخرى أعنف من الأولى، وذلك أثناء انعقاد ندوة "الثقافة في مواجهة التطرف"، التي شارك فيها عبد الرحمن شلقم وزير الخارجية الليبي الأسبق، ليتدخل الأمن المصري ثانية لفض النزاع، وهذا مؤشر على ما وصلت إليه ليبيا والليبيون الذين أصبحوا غير قادرين على الحوار والمناقشة أو التلاقي، فتبادلوا الاتهامات بالعمالة، وكذلك الاعتداءات اللفظية والفعلية أمام جمهور يُفترض فيه أن يكون الصفوة، وهو مؤشرٌ أيضاً لواقع كلِّ دول الربيع العربي؛ فمصر تعاني ولم تستقر حتى الآن.. سوريا في طريقها إلى التقسيم وإلى أن تكون دولة فاشلة.. ليبيا شبه مقسمة وغارقة في حروب أهلية.. اليمن عانت الويلات قبل أن تشن السعودية حرباً عليها لتزيد من معاناتها معاناة أخرى.. تونس تعيش حالات اضطراب أمني لدرجة فرض حظر التجول.. وقبل ذلك أحوال العراق التي بشّرتنا أمريكا أنه سيكون نموذجاً للديمقراطية الجديدة مشلولٌ ومقسّم فعليا.. داعش والقاعدة تنفذان خطة الفوضى الخلاقة بكلِّ جدارة؛ وكأنّ لسان حال الناس يردد الآن المثل الروسي "رحم الله النبّاش الأوّل".

وقصةُ المثل أنّ رجلاً تُوفيَّ ففرح الناس جميعاً بوفاته، ممّا ضايق ابنه الذي لم يكن يدري ما سبب فرح الناس بوفاة والده؛ فسأل أمه عن السبب، فقالت الأم إنّ أباك كان ينبش قبور الناس ويسرق أكفانهم، فقال الابن: أعرف كيف أجعل الناس تترحم على والدي، فورث الابن مهنة أبيه، ولكنه أضاف إلى ذلك أن يمثِّل بالجثث ويشوهها، وأمام وضعٍ كهذا أصبح الناس يرددون: رحم الله النبَّاش الأول فقد كان أرحم، إذ اكتفى بسرقة الأكفان فقط أما النبَّاش الجديد فلا يترك الجثة سليمة. ومغزى القصة أنّ النبَّاش الأول كان سيِّئاً إلا أنّ الثاني جاء أكثر سوءاً، وفي اعتقادي أنّ هذا ما ينطبق على الأوضاع العربية بعد ذلك الربيع، فإذا كانت الأنظمة أساساً سيئة فإنّ البديل أسوأ، لأنّ هَمَّ المعارضات العربية هو الوصول إلى كرسي الحكم فقط، وليس إلى تحقيق الديمقراطية والقضاء على الفساد أو الرقيِّ بالمجتمعات العربية صناعياً وعلمياً وثقافياً وخلقياً، بل إنّ معظم هذه المعارضات ترتبط بالخارج وتنفذ أجندات خارجية، وهذا ما شاهدناه في العراق وسوريا وليبيا واليمن.

في تقريرها عن الربيع العربي بعد مرور خمس سنوات، أشارت صحيفة "الإندبندنت" البريطانية الى أنّ المنطقة لم تشهد أيَّ ازدهار في الديمقراطية أو العدالة أو التسامح بعكس ما كان يتوقعه الكثيرون؛ بل شهدت مزيجاً من الاستبداد والتعثر في التحرر، وأصبحت نموذجاً للدول الفاشلة إذ تفشت بها الحروب الأهلية والنزاعات المذهبية، فلا وجود لمساءلة الحكومات، ولا وجود للاعتراف بالتنوع والتسامح.

هل فشل الثورات يعني أنّ بقاء الأنظمة الديكتاتورية أفضل؟! بالتأكيد لا؛ ولكن لا بد من الإشارة أنّ هناك أخطاء كبيرة رافقت هذه الثورات، لعل أبرزها غياب البديل، وعدم الاستعداد للتغيير الاستعداد الجيد؛ فليس المطلوب هدم الحاضر دون معرفة بديله في المستقبل، أو أن تخسر الأوطان وحدتها أو تخضع من جديد للهيمنة الأجنبية، إذ لا يمكن الفصل في المنطقة العربية بين هدف الديمقراطية وبين مسائل الوحدة الوطنية والتحرّر الوطني والهويّة العربية، حسب رأي صبحي غندور مدير "مركز الحوار العربي" في واشنطن.

ولا يمكن أن نعتمد على شيء اسمه "حُسن نية"؛ فمصير الأوطان والشعوب لا تعلق بنية طيبة، كأنْ يثور الناس بهدف تغيير وجه على حساب وجه آخر، مع استمرار المعضلات نفسها؛ فالأوطان العربية التي قامت بها الثورات -بما في ذلك العراق-، كانت تنعم بأمنٍ واستقرار ووحدة وطنية رغم كلِّ الأخطاء، أما الآن فقد انقلبت الآية، وأصبحت هذه الدول ملعباً تتصارع عليه الدول الإقليميّة والأجنبية وبعض دول الخليج التي تبحث عن الدور، وظنت أنّها ستبقى في مأمن من الاضطرابات إن هي أشعلت النيران يميناً ويساراً، وهو ظنٌ خاطئ إذ أنّ الدور سيأتي للكل عاجلاً أم آجلاً، وأكاد أرى البدايات وقد خطت خطوات كبيرة إلى المصير المحتوم؛ فمن يُشعل نار الفتن الطائفية والمذهبية سيكتوي بنارها.

من أشكال حسن النية أن يعتقد البعض أنّ التغيير ضروري بأيِّ شكل وبأيِّ ثمن. صحيح أنّ التغيير مطلوب وضروري ولكن إذا لم يكن مدروساً.. وإذا كان سيؤدي إلى تشتيت الأوطان.. وإذا كانت شلة من المنتفعين الذين يعيشون في فنادق خمس نجوم العالمية وهم الذين يبحثون عن مصالحهم الشخصية على حساب البسطاء من الشعوب داخل الأوطان، هم قادة المستقبل، ومستعدون أن يعودوا إلى أوطانهم على ظهر القاذفات والبوارج الأجنبية، فلا معنى لهذا التغيير أبداً، فما يُبنى على باطل فهو باطل.

يرى الكثيرون أنّ ثورات الربيع العربي كانت ثورات شباب، وأنها كانت تلقائية، ولا يمكن أن نقلل من تضحيات أولئك الشباب، ولكن نظرة كهذه أظنها أقرب إلى أن تكون ساذجة، ولا يعقل أن يقول أحدهم إنّ الفيس بوك أو التويتر هو المحرّك؛ فالمحرِّك الأساسي لم يكن ظاهراً، لذا فإنّ كلَّ الثورات لم يكن معلوماً من هو قائدُها وما هو هدفُها، فقد جاءت هذه الثورات ضمن مخطط شامل ومدروس لتغيير وجوهٍ فقط، وتزامنت مع سياسة "الفوضى الخلاقة" وهي التي تترجم الآن على الأرض؛ فنشأت عنها داعش وأخواتها، وكذلك الحروب المذهبية، ليصل الأمر إلى تقسيم الأوطان العربية إلى دويلات وكانتونات مذهبية وعرقية وطائفية؛ وعبر التاريخ فإنّ هناك من قاد الشعوب إلى التغيير، سواء كانوا أفراداً أو تنظيمات؛ فأمام "الحالة الثورية" التي وصلت إليها الشعوب العربية، لم يظهر من يستطيع أن يقودها إلى بر الأمان، فأصبحت الثورات بلا عنوان. والحالةُ الثورية - كما يصفها الأستاذ هيكل- لا يخلقها من العدم فردٌ بذاته أو جماعةٌ بعينها بالقصد أو بالتدبير، لأنها تاريخياً وعملياً أكبر وأعمق من أيِّ قصد أو تدبير، وكلُّ ما هنالك أنّ هذه الحالة تصبح احتمالاً مفتوحاً لأيِّ طرف أو تنظيم، يستطيع تحليل عناصرها وتشخيص عوارضها والتصدي لقيادتها في اللحظات الحاسمة؛ وهذا ما حدث في الثورة الفرنسية وفي الثورة البلشفية، وتكرر في جيلنا الحاضر في الثورة الإيرانية؛ ففي سنة 1978، كانت كلُّ العناصر السياسية المدنية من بقايا الجبهة الوطنية وهي التي قادت الكفاح الطويل ضد أسرة بهلوي قد استنزفت قواها وتقطعت أنفاسها، وكانت العناصر الدينية بقيادة الخميني هي التي اقتحمت الساحة الإيرانية في اللحظة المناسبة وكانت الأقدر على بلورة وتوجيه واستغلال الحالة الثورية، وهكذا كانت هي التي أطاحت بعرش الطاووس في طهران.

بعيداً عن العاطفة، وبعيداً عن التشكيك في النوايا، نسأل هل حقق "الربيع العربي" إنجازات ونتائج إيجابية؟ وهل المقصود هو التغيير لأجل التغيير فقط، حتى لو أدى الأمر إلى تشتيت الأوطان العربية؟ بل نتجرأ ونسأل أيهما أرحم أنظمة قوية متماسكة مع أوطان متحدة أم فوضى في كلِّ مكان مع تشتت الأوطان؟ الموضوع يحتاج إلى تحليل وإلى الاعتراف بأيِّ اخفاقات قد حدثت، كيف حدثت ولماذا؟

تعليق عبر الفيس بوك