كان .. وكان

عائشة البلوشية

يحكى أنّ المُعتمد بن عباد كان يعشق زوجته اعتماد الرميكية عشقًا عظيمًا ولا يرُد لها طلبًا، مهما كانت صعوبة تحقيقه، حيث تذكُر الروايات أنها في أحد الأيام اشتهت المشي على الطين، فما كان منه إلا أن أمر بأن يُطحن الطيب وتفرش به ممرات القصر ثم تصب عليه الغرابيب ويُعجن بماء الورد، لتقوم اعتماد بالمشي عليه مع جواريها، ويُقال إنّها في إحدى المرات النادرة الحدوث في جنوب الأندلس، رأت الرميكية ندف الثلج وهي تتساقط على الأشجار في قرطبة، فبكت وعاتبته طالبة منه أن يجعلها ترى الأشجار مغطاة بندف الثلج على جبل قرطبة، فما كان منه إلا أن أمرهم بزراعة أشجار اللوز حتى تكتسي بالبياض عندما تزهر وتشرق الشمس، فتعكس بياض الزهور وتبدو كأنّها اكتست بثلج الشتاء فتسعد زوجته الحبيبة بذلك..

وعندما تُصافح أعيننا تلك الصور البراقة ﻷشجار الكرز في موسم الإزهار في اليابان، نتمنى لو أننا نتجول بين تلك المناظر ونتنفس تلك الروائح الزكية، وشاء الله تعالى بأن أكون ضمن وفد إلى اليابان في عام 2003م، وفي داخلي أمنية بأن أشاهد أزهار أشجار الكرز يانعة على أغصانها، ولكن ويا ﻷسفي فقد كان وصولنا بعد انتهاء الموسم بأسبوع، فقلت في نفسي لابد وأن أُشاهد أحد المواسم إن امتد بي العُمر، ولكنني لم أكن ﻷتخيل أبدًا أنني سأشاهد منظراً أروع من ذلك في ربوع بلادي الحبيبة، نعم فقد دلفت مركبتنا من "وادي المستل" لتدخلنا بين ثنايا جمال رباني من عظيم ما خلق الله تعالى من الجبال الشاهقة، فأخذ الطريق ينحني مع انثناءات تلك السلسلة الجبلية، وأشعة الشمس تطل على استحياء مُعلنة عن موعد شروق جديد، يبث الدفء في تلك الأخاديد الباردة..

وإذا ببناء يلوح على مرمى البصر يتربع إحدى القمم، وكنّا نتجاذب أطراف الحديث عن ماهية ذلك البناء، وأيّ قرية تلك، ولم نكن نعلم بأن تلك الارتفاعات الوعرة هي وجهتنا، فسلكنا طريقاً ممهدًا، وأخذنا نرتفع عن مستوى سطح البحر شيئاً فشيئًا، وننظر إلى تلك البيوت المترامية هنا وهناك وهي تصغر شيئاً فشيئاً، حتى أصبحت كاللعب الصغيرة، عندما رأيت لائحة بنية اللون كتب عليها "وكان" وأخرى كتب عليها "القورة"، ونحن على ارتفاع ألفي متر فوق سطح البحر، ازدادت برودة الجو حدة، وعندما ترجلنا من المركبات استغربت من الهدوء العجيب، لدرجة أنني بدأت التحدث مع والدي -رزقني الله بره- بصوت خفيض، فقال لي إنّ أهل القرية لا يزالون نيامًا، فوصولنا كان مبكرًا وتزامن مع بدايات شروق الشمس، فحملنا عدتنا وسلكنا الطريق بين المنازل، وما أن صافحت عيني منظر المدرجات الممتلئة بخضرة وزهر؛ حتى شهقت مُسبحة بعظمة الخالق لما رأيته من جمال يحبس الأنفاس، حيث انعكست أشعة الشمس على زهور أشجار المشمش فاكتست بلون أبيض كندف الثلج في الشتاء الأوروبي، وأعادتني أشجار النخل الباسقات إلى البيئة العمانية، وطفقت أتأمل في كل ما حولي متسائلة كيف يمكن لمخلوق ضعيف كالإنسان، أن يصل إلى هذا العلو الشاهق فيترك الأرض والسهول، ويدخل في خلوة روحانية ويطوع الطبيعة الصخرية ويزرع النخل والمشمش والرمان، ويصنع تكعيبات الكروم ويوزع عليها الأفنان، ويزف الورد العماني إلى تلك الأنحاء فيوزع بين المدرجات الألوان، ومحاصيل تفيه حاجته من بقلها وفومها وعدسها وبصلها تراها في كل مكان، أم تراها نسخة أخرى لاعتماد الرميكية أرادت أن تمتع ناظريها بندف الثلج على الشجر؟! أوصلته إلى هذا العلو الشاهق ليغرس المشمش هنا، وكيف وصلت له أشجار المشمش أو بذورها؟، وما الذي هداه ﻷن يعرف بأن زراعتها هنا مُنتجة؟!؛ بأمانة.. لا أجد كلمات لأصف بها ما رأيت من معانٍ، فمن يخرج من صخب المدينة وازدحام الطرق، ويصل إلى "وكان" ثم يجلس لمدة ساعة متأملاً تلك الروعة، تاركًا ﻷذنيه التقاط صوت خرير الفلج المنساب في ساقية صغيرة، وصوت النحل متسابقًا ليعبء من رحيق زهور المشمش، سيجد في نفسه لذة عجيبة وأنه ارتقى بروحه نحو طاقات الإحساس بالسُّمو، وتخلص من أحمال العمل وضغوط الحياة اليومية، وغاص بعيدًا إلى حيث الطبيعة البكر التي لا زالت كما هي، وستعود إلى مخيلته صور ذلك الزمان الجميل حيث مراتع الطفولة والصبا..

عندما بدأنا في حزم الأمتعة في تمام التاسعة والنصف، كنت أظن أنّ الرحلة انتهت، ولكن كانت هناك مفاجأة أخرى، حيث نزلنا من "وكان"، وبدأنا في التعمق نحو لائحة كتب عليها "حدش"، وكان الوصول إليها أكثر وعورة، وكانت هناك بعض الخيام التي رأيناها في طريقنا لبعض السياح الأجانب، الذين يأتون لاستكشاف الجبال وممارسة رياضة التسلق، وبعدها وصلنا إلى "حدش"، وماذا يمكنني أن أصف؟! قرية تحيط بها أشجار "البوت" و"العتم" و"القصم"، تشرق عليها الشمس في تمام التاسعة صباحاً، وتغرب في حوالي الرابعة، أما في شهر ديسمبر حيث يكسو الثلج الأشجار فوق الجبل فتشرق الشمس في تمام الحادية عشرة صباحًا وتغرب في الثالثة، وهي لا تقل جمالاً عن قرية "وكان"، فالمدرجات حاضرة تزهو بالمشمش والرمان والنخيل والمحاصيل، وكلما أطلقت لساقيك العنان لتتجول بين مزارع القرية ومدرجاتها، ازددت تعمقاً في جمال لا متناهٍ..

ما أجمل خلق الله، وما أروع نعمه علينا، ولكن الذي لفت انتباهي فعلا وكنت في قمة سعادتي له هو أنّ الكهرباء وخزانات الماء حاضرة لديهم، حيث قامت الجهات المعنية بإمدادهم بالماء عن طريق تركيب خزانات كبيرة لتجنب تلك القرى الجبلية مغبة المحل بسبب قلة الأمطار، ولكن رغم ذلك وجدناهم يشتكون عطش مزارعهم، وهجرة الكثير من الأهالي وخصوصاً الشباب منهم من تلك القرى، مما أثر في نفوسنا جميعًا، وآلمنا ما تدفعه مواطن الجمال هذه من ضريبة الحياة العصرية، وأسأله تعالى أن يُديم علينا هذه النعم وألا يأتي علينا يوم نحكي ﻷحفادنا قائلين: "كان يا ما كان، في قديم الزمان، كانت هناك قرية مكسوة بالجمال في بلادنا عُمان، يزهر فيها المشمش والرمان، والأعناب والنخل ومن الخضرة ألوان، وكانت هذه القرية تعرف بـ"وكان"..

توقيع: "من يزرع خيرًا يحصد حباً، ومن يزرع حباً يحصد كل خير".

تعليق عبر الفيس بوك