اقتصاد المعرفة

سؤال للتاريخ: ماذا فعلنا؟ (35)

د. صالح الفهدي

 

كتبت مؤخراً إحدى الجدّات إلى مارك زوكربيرج مؤسس الفيسبوك أنها نصحت حفيدتها بالزواج من مخترع لعله يصبح نسخة أخرى من مارك زوكبيرج، فردّ عليها صاحب الفيسبوك بالقول:" قومي بخطوة أفضل وشجعيها على الاجتهاد لتصبح هي ذاتها مُخترعة..!"

في الوقت الذي تطأ فيه أقدامُ بعض الشعوبِ ظهور الصحارى القاحلة، تحرقها أشعة الشمسِ، وتلذعها ألسنة الرمال، لا ترى أمامها إلاّ صحارى مُجرّدة، وكأنّما هي سطحٌ مقفر، تنبري المعرفة من الخارج لتلفت أنظار هذه الشعوب إلى أنّها طوال الدهور إنّما تمشي على كنوز ستقلبُ موازين الحياةِ على ظهر هذا الكوكب ..!! قَدَرُ الذين لا يدركون قيمة ما يحملونه في عقلياتهم أنّهم لا يلاقون في الحياةِ إلاّ المشقّة والضنى، أمّا قدر الذين يعلمون أنّ الله وهبهم أثمن ما وهب عباده وهو العقل السعادة وتحقيق الطموحات والإنجازات المتوالية. يقول بيتر دراكر:"النجاح في اقتصاد المعرفة يأتي من أولئك الذين يدركون حقيقة أنفسهم ومكامن قوتهم، وقيمتهم وكيف يقومون بأداءٍ متميّز".

لكن وبعد أن فجّرت عصا المعرفة ينابيع الأرض فاندفقت عيون النفط هل وعى صنّاع السياساتِ أنّ النفط موردٌ ناضب وأنّ كلَّ نعمةٍ مسلوبةٍ إن لم يُحسن توظيفها، وأنّ كل فضلٍ إنّما هو - في سلّمِ الترقّي- قنطرةٌ لما هو أفضل؟! إن هذا الحديثُ يقترنُ بالوضع الاقتصادي الذي اتكأ على النفط كوسيلة مطلقةٍ للمعيشة دون أن يستطيع أن يخلق اقتصاداً موازياً يُقلّل من الضغط على هذا المورد الناضب فضلاً عن أنّه مرتهن لنسبية العرضِ والطلب. يقول د. إبراهيم الرحبي في كتابه الموسوم(اقتصاد المعرفة البديل الابتكاري لتنمية اقتصادية مستدامة-سلطنة عمان نموذجًا) نقلاً عن باحثين:"إن إمكانية تضاعف عدد السكان في سلطنة عمان عام 2020 مع تراجع الاحتياطات النفطية، والتذبذب في أسعار النفط، فبينما كل واحد من هذه الأمور يُعتبر معضلة بحد ذاتـها، فإن وجودها مجتمعة يشكل خطراً كبيراً على الاقتصاد العماني في ظل الاعتماد الكبير على إيرادات النفط".

إنّ اقتصاد المعرفة هو بناءُ الاقتصاد على أساس المعرفة واعتماده عليها، وهذا أمرٌ بديهي فحين دمرت الصروح، وقضي على المباني، وأبيدت المؤسسات، كان على الإنسان أن ينهض بعقليته بالاقتصاد بعد أن وفّرت له البيئة المحفّزة لكي يفكر ويبحث ويبدع ويخترع ويبتكر. إن أعظم ما يؤسس لاقتصاد المعرفة هو التعليم السليم القائم على اكتشاف القدرات الإنسانية ووضعها في المساقات السليمة التي تكفل لها رعايةً طموحة، ونموّاً مضطرداً.

لقد تغيّرت طبيعة العصر، وطبقاً لذلك تغيّرت الوظائف لهذا فإنّ الدول التي بقيت تعمل بالطرق التلقيدية فوجئت بالمتغيرات التي أحدثها اقتصادُ المعرفة، مما شلّ أياديها عن العمل لأنّها كانت تعمل خارج التاريخ..! يقول د. إبراهيم الرحبي في كتابه المذكور أعلاه:"إنّ الاهتمام باقتصاد المعرفة مرده إلى أنّ الدراسات المُعمقة التي أجريت من قبل الكثير من الدول والمنظمات الدولية والباحثين الاقتصاديين توصلت إلى أنّ المعرفة واستخداماتـها المثلى أصبحت تلعب دوراً حيوياً وهاماً في الحصول على الثروات، وما تزايد الاهتمام بفئة المتخصصين في شتى جوانب العمل المختلفة كالأطباء والمهندسين والقانونيين ومبرمجي الحاسوب وغيرها من الوظائف على حساب الوظائف التقليدية كالمزارعين والصناعيين والعمال غير المهرة إلا نموذجاً لهذا التحول الاقتصادي الهام. وتؤكد دراسات الاتحاد الأوروبي أنّ 25% من النمو الاقتصادي و40% من زيادة إنتاجية العمل يعود فضلها إلى قطاع التكنولوجيا والاتصالات التي هي أحد أسس اقتصاد المعرفة وتشير الدراسات أيضاً إلى أنّ 70% من الوظائف الجديدة في الدول المتقدمة تخلق في قطاع الخدمات الذي أساسه العمل التخصصي. إضافة إلى ذلك فإنّ أهمية هذا الاقتصاد الجديد تكمن في قابليته لتوفير الكثير من فرص العمل لمخرجات التعليم والتدريب بأنواعها، حيث أظهرت بعض الدراسات في الولايات المتحدة أنّ الصناعات التقليدية تضيف في المتوسط 3.4 وظيفة مساندة لكل فرصة عمل جديدة أساسية كما هو الحال مع عملاق صناعة الطائرات الأمريكية بوينج، بينما الاقتصاد الجديد المبني على المعرفة يضيف في المتوسط 6.7 وظيفة مساندة لكل وظيفة جديدة كما هو الحال مع مايكروسوفت".

إنّ الثروات البشرية هي أعظم ما تمتلكه الأوطانُ من ثروات فهي الطريق الأمثل لتنويع الاقتصاد، عبر نظامٍ تعليمي قادر على المنافسة عالمياً وبلا شك فإنّ المسابقات العالمية التي تُجرى نظرياً أو عملياً إنّما تدلّ على المستوى الذي وصل إليه النظام التعليمي في كل بلد لهذا تستطيع البلدان المشاركة تقييم تجربتها من خلال هذه المسابقات. على أن المؤشر الأكبر هو الوضع الاقتصادي للبلدان، فالدّول التي تتمتع بنظام تعليمي قائمٍ على تفعيل وسائل البحث والتفكير والتجديد والإبداع والابتكار والتجربة تتمتع بنمو اقتصادي أفضل من تلك التي لا توفر البيئات المشجعة للقدرات الإنسانية كي تحلّق في سماوات الإبداع والتجديد. من أجل ذلك فإنّ إصلاح التعليم وتوجيهه الوجهة العصرية نحو اقتصاد المعرفة هو المطمح الأهم بالنسبة لبلداننا كي تكون في مصاف الدول التي تحقق نمواً اقتصادياً متصاعداً.

الأوطان التي لا تُقدّر ثرواتها البشرية لا تسعى إلى النماء في حقيقتها لأنّ الإنسان هو محور التنمية، وهو أساسُ التطور لهذا فإنّ الاقتصاد الحقيقي هو الذي يرتكز على الثروة المعرفية للبشر .. يخبرني أحدهم: "لقد شاهدت مخترعاً ذات مرّةٍ في لقاءٍ تلفزيوني وهو يتحدّثُ عن اختراعاتهِ والعراقيل التي يواجهها من أجلِ الحصول على براءات اختراعٍ أو الدعم، ثمّ صادفهُ المرّة الثانية وهو مرتحلٌ إلى كوريا الجنوبية لكي يعيشَ مغترباً عن وطنه، باحثاً عن بيئة داعمة لأساسِ ما يسمى باقتصادِ المعرفة"..!.. الأوطان التي لا تقدّر البحوث تتراجع، والأوطان التي تدسُّ الدراسات في الأدراج تتقهقر، والأوطان التي لا ترعى الكفاءات البشرية تذوي.

إن الشعوب التي تنشغلُ بالتوافه والشائعات والنكت بعيدةٌ عن اقتصاد المعرفة لأنّها لا تتعامل مع المعرفة كوسيلة للإنتاج الفكري، والتغيير الحضاري، والتقدم التنموي، ولا تتعامل مع التكنولوجيا بصفتها وسيلة للتقدم، وأداة للتطوير وهكذا أضاعت أوقاتها سدى وكان عليها أن تنشغل بالعلم والثقافة وتتبع الجديدِ والمُفيد. في جانبٍ آخر فإنّ الشعوب التي تسعى للحصول على الشهادات بغضِّ النظر عن مضامين المعرفة إنّما هي في الحقيقة مصابة بالأميّة التي لم تعد مقصورة على عدم القدرة على الكتابة والقراءة، وإنّما أن يمتلك الإنسانُ عقلاً فلا يعرفُ كي يوظّفه من أجل نموّه، وأن يجهل الطريق الحقيقي نحو تلمّس أنوار المعرفة فيظلُّ متخبّطاً لا يستقرُّ له اتجاه..!

لِمَ لمْ تتغير إذن نظم التعليم عندنا عن الطرق التقليدية؟! يقول أحدهم:" لقد تغيَّر كل شيءٍ عدا الطاولة والكرسي في فصول المدرسة..!" لِمَ لم تتغير المناهج وطرق التدريس والوسائل والمعلمون..؟! كيف لنا أن نتحدث عن تنويع الاقتصاد ولا نتحدث عن إصلاح التعليم.. التعليم الذي يجب أن يكون منفتحاً ثقافياً.. التعليم الذي لا يرتهن للحفظ.. التعليم الذي لا يعتمد على التلقي والحشو .. التعليم غير البنكي.. التعليم المحفّز على البحث .. التعليم المشجّع على التفكير.. التعليم المحرّك للعقول الراكدة.. التعليم الذي يتعامل مع الفرضيات.. التعليم الذي يرتبطُ بالواقع المعاش، بتفاصيله، بفرصه، بتحدياته..؟!

أخبرني رئيس لجنة دولية بأن هناك جهوداً للجنة صداقةٍ دولية من أجل توفير التكنولوجيا لتقليل عدد العاملين في إنجاز المشاريع، مما يعني أن اقتصاد المعرفة ليس اقتصاد وفرةٍ عددية بشرية وإنّما اقتصاد عقلية بشريّة. ولأجل التهيئة فإنّ هذا الاقتصاد يحتاج إلى أسس عصرية في مجالات التعليم والتدريب وهو ما يجب أن يتصدّى له مختصّون مطّلعون على مجالات التقدم المعرفي، والتطور التكنولوجي لكي يؤسسوا لهذه المجالات ما يكفلُ لها القدرة على توظيف العامل البشري توظيفاً كيفياً لا كمياً.

أوجزُ القول بأنّ المعرفة موردٌ غير قابل للنفاد كما هو شأن الموارد الأخرى بل هي مورد تراكمي تشكّل مفتاح اقتصاد المعرفة، لهذا فإنّ من يجهل هذه الحقيقة أو يتغافل عنها فإنّه يمثّل الصخرة الكأداء أمام التنمية، وسوانحها التي تنداح أمام العقل البشري الباحث والمفكر والمخترع.

 

تعليق عبر الفيس بوك