مشهدان متناقضان

هلال بن سالم الزيدي

مشهد (1)

ذات صباح كان الشعور باردًا كبرودة الطقس.. وضعت معطفها البُني على صدرها لتخفي النتوءات الجارفة من فعل الحياة.. وأشعلت فتيل فكرها الجارف إلى حياة الشهرة والظهور ليُشار إليها في كل المواقع الافتراضية.. فقالت: سأجعلهم يصفقون لي.. لا لا لا يكفي التصفيق.. سأجعلهم يضعوني واجهة في "بروفايلهم".. إذاً عليّ أن أرتدي عباءة مزركشة ومربوطة من وسطها لتشطرني نصفين: نصف علوي تتكسر عنده العيون الباحثة عن علو المكانة، ونصف سُفلي يجر خلفه أنصاف الرجال الطامحين إلى وسادة وثيرة في شتاء مُتناقض.. كما إنني احتاج إلى عدسات بُنية اللون لتتناسق مع معطفي الذي يضايق حريتي.. وكذلك طلاء لأظافري الخادشة في عقول من يهوى الرضوخ لهذا الامتداد.. نعم هكذا يبدو جميلاً مع إظهار خُصلة من شعري البني كي تتناسق مع لون بشرتي البرازيلية.. أما أرجلي فأوسدها كعباً يعلي من قامتي لأتمايل على نغم موسيقى لم تُعزف بعد.. وسأرش من عطري المفضل الذي سيلتصق بكل الممرات والجدران.. هنا تُدير محرك سيارتها الرياضية وتنطلق مزهوة بنفسها وتنطلق إلى اجتماعها المهم جداً والذي يركز فيه الحضور على الشكل جملة وتفصيلاً.. هكذا يقودها تفكيرها في بيئة تهوى الرقص على جثث القتلى وتستبيح الحُرمات في هذا العالم الصغير في نظرها والمُتمدد في مخططات أولئك الذين تستهويهم رائحة الدم.. فهاهم يكيلون لها المديح وينحنون لها تبجيلاً.. فيقول أحدهم: كم أنت رائعة أيتها المفكرة والمُدبرة.. عيناك عذرًا أقصد فكرتك جميلة ورائعة.. فيشاطره الآخر الرأي .. نعم أتفق معك أنظر إلى تقاسيم قامتها .. عفوًا أقصد تقاسيم الفكرة كيف سيكون سهل تطبيقها على أرض الواقع.. هنا يشق صاحبهم الثالث صمته ويقول: كل شيء سهل في تطبيقه على الأرض وخاصة مع تمدد الهامة أقصد: تمدد المشروع ليعم الجميع.. هنا تطلق ضحكتها قائلة: يعجبني فهمكم السريع.. إذًا علينا المباشرة في المشروع قبل أن تُسرق الفكرة.. نعم نعم لك ذلك" يؤكدون جميعًا".

ذلك هو مشهد يتجلى في حياة "ما" في زمن "ما" في مكان "ما"، وبين وطن أوسطه حياة وخاتمته أنفة وإباء.. لكنه سرعان ما يرضخ للواقع وينجرف إلى أبعد الحدود التي تداخلت مع ذواتها لتشكل تنافراً بين أخوة الدم.

مشهد (2)

مع بزوغ الفجر وامتداد كفوفها إلى سماء مفتوحة ومجيب لمن دعا.. تنوي السفر من قريتها التي تبعد ما يُقارب الأربع ساعات عن مقر الوزارة لمتابعة موضوع لأُسرتها.. فبعد أن أعدت مستلزمات أبنائها وأسرتها أسرجت فكرها وتوشحت بسواد الوقار والشموخ.. اتجهت إلى الشارع العام حيث هي على موعد مع أحد المُتجهين إلى عملهم في العاصمة لتكون أول الواصلين إلى هذه المدينة الممتدة.. تحسست كيسها المحتوي على الأوراق والثبوتيات، بعد أن تاهت في أروقة المديرية باحثة عن مأوى لموضوعها كي تجد استقرارها، فهذا يتجاهلها وذاك يزج بها للذهاب إلى "الوزارة" وتحديداً إلى مكتب الوكيل لأنّ موضوعها هناك.. لم تتذكر إلا زوجها المُقعد وأبناءها، وهاهي السيارة تعبر الجبال وتخترق الأودية.. لتصل إلى العاصمة، وبالتحديد أمام المبنى الكبير" الوزارة.. تترجل من السيارة.. شاكرة السائق وداعية له بالتوفيق على هذه الخدمة.. لكنه يُعاجلها ويقول لها: الساعة الثانية والنصف تكونين هنا ولا تتأخري من أجل العودة إلى البلاد.. مُرددة حاضر: يا ولدي.. الله يسهل دروبك.. تقف أمام البوابة يأتيها الحارس: خير تفضلي ويش عندك؟ فتقول له يا ولدي عندي موضوع وباغية أشوف الوكيل، إذا تساعدني الله يسهل عليك.. فيجيبها: الوالدة بعده ما حد مداوم وما ممكن ندخلك إلا الساعة الثامنة.. فترد" "زين ولدي أنا أحرصه ألين يجي".. تسند ظهرها على سور الوزارة وتسرح بخيالها مع سكون بلدتها.. وتتذكر جلستها مع جاراتها.. وذهابها إلى "المزرعة" لجلب "القت" لمواشيها.. ومع تزاحم تلك الأفكار .. أحدهم يوقظها.. الوالدة: باغية تدخلي الوزارة؟ تقوم من ذكرياتها.. "نعم يا ولدي .. غايته يدخلوا" .. فيرد عليها: غايته.. تتجه إلى المبنى وتدخل وتقول في نفسها: سأجد من يُساعدني، فأولاد الأجاويد كثيرون.. فمن هنا وهناك ومن مكتب إلى مكتب حتى تصل إلى مكتب الوكيل"مكتب التنسيق"، فهناك شخص مُحنك في الكلام والردود ولديه طرق كي يستقبل المراجعين، وهنا أنا أجزم بأنّ مستواه التعليمي لا يتجاوز الثانوية العامة، لكنه يُجيد كل الفنون، ويعرف كل القوانين، مع خاتمة يقول فيها: هذه توجيهات سعادته.. تجلس أمامه وتشرح له الوضع، ويرد لها: من قالك تجي هنا؟ فتقول: فلان من المديرية، فيقوم بالاتصال به، تو إيش موضوع فلانة؟ .. نعم نعم، حياك الله.. الوالدة موضوعك ما هنا، لازم تروحي مكتب المتابعة والتنسيق وتخبريهم بموضوعك وبعدها يشوفوا إذا يحتاج تقابلي سعادته أم لا.. فترد عليه، يا ولدي أنا مستجيرة بالله ثمّ بالحكومة في موضوعي.. هنا يقشعر بدني من هول تلك العبارة.. فتذكرت الاستجارة.. وتبادرت إلى ذهني الآية الكريمة التي وجه الله عزّ وجلّ فيها سيد الخلق حيث قال: "وإن أحدٌ من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه".. نعم كانت تلك دعوة نبينا الكريم ليُجير المشرك، فكيف بمسلم يستجير ولا أحد يجيره؟.

تلك اللحظة تتجه المرأة بين ردهات تلك الوزارة ولا أعلم ما حدث لها، فهل وجدت من يُجيرها.. أم أنها عادت بخفي حنين إلى بلدتها ودموعها تسبقها..؟

بينما أفكر في ذلك المشهد وأنا أمام مكتب ذلك المنسق تنعكس السماء على طاولته حيث يبدو السحاب يتمدد ويتجمع ليكون كومة واحدة.. فقلت في نفسي.. متى نتجمع كتجمع تلك السحب لننفع بعضنا البعض.. ؟ هنا يقاطعني المنسق: " تفضل بغيت شيء" فقبل أن أجيبه قلت في نفسي" من يرى مواضيع غيره يهون عليه موضوعه، فأجبته: لا شكراً.. فخرجت أعضُ على النواجذ من فرط تعامل البشر.. وبحثت عن تلك المرأة فلم أجدها.. لا أعلم هل وجدت من يجيرها..؟

همسة:

مشهدان متناقضان لا أدري من أحق بالحياة من الآخر فيهما؟

*كاتبٌ وإعلامي

abuzaidi2007@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك