أصدقاء ولكن!

فيصل الحضرمي

"كيف ولدت الصداقة؟ ولدت بالتأكيد كتحالف ضد الخصومة. تحالف من شأن الإنسان أن يكون دونه منزوع السلاح أمام أعدائه. لكن ربما لم تعد هناك حاجة حيوية لمثل هذا التحالف. ماذا يستطيع صديق من أجلك عندما يتقرر إنشاء مطار قرب نوافذك أو حين تٌسرّح من عملك؟" الهوية، ميلان كونديرا.

قلائل هم/ ونحسبهم كثيرون/ من لو قال قائلهم: "صديقي"/ كان يعنيها. في المطعم: كالسمن على العسل. في المقهى: كالرماد على المنفضة. في الشاطئ: كالنسمة على الخد.في لحظات الطيش: "بصراحة أعجتني كثيراً". في لحظات الفشل: "لا عليك، لكل جواد كبوة". في لحظات النجاح: "لا تصدق نفسك، أعتقد أن هناك خطأً في الموضوع". أي تماماً: " كالزيت على النار".

هكذا هم الأصدقاء. أحدهم قال لصديقه والفرح الساذج يغمره إلى عينيه: "صديقي العزيز، بارك لي، حصلت على وظيفة جديدة!" و بدل أن يرى ابتسامة فرح، انقلب وجه الصديق فجأة و صار كطبق مزج الألوان الخاص بالرسامين. فوراً أدرك صاحبنا أن هذا التلون هو من أعراض الغيرة، أو بالأحرى من "العلامات الكبرى" لعملية التداعي الحر لمنظومة الدفاع الذاتية المسماة "النرجسية". أخيراً أسعف الصديق الكلام: "مبروك صديقي، أممموووه، أي وظيفة؟ أي مكان؟" مسح اللعاب عن خده وأجاب: "وظيفة في إحدى الشركات براتب يبلغ ضعف راتبي الحالي". "صحيح؟ والله؟ غريبة! لكن ليس لديك شهادة في هذا التخصص" أبدى استغرابه المريب وهو يبتسم بصعوبة وكأنما ليكحل عيناً كان قد اقتلعها قبل لحظات، ثم أضاف: "أشم في الموضوع رائحة واسطة!".

رد عليه قاطعاً حبل شكوكه: "لا يا صديقي، ليست هناك واسطة من أحد. خضعت لمقابلة وحزت على رضاهم فمنحوني الوظيفة". ازدادت حدة صوت الصديق مع نبرة غضب مكشوفة تثبت أن "حبل شكوكه" لم ينقطع بعد: "كلامك لا يدخل العقل يا صديقي، كيف يمكن أن يحدث هذا؟ لا بد أن هناك واسطة، و أنت الرجل المثالي الذي تتحدث دائماً عن النزاهة!". استجمع تماسكه و أقسم لصديقه عشر مرات تقريباً أنه نال الوظيفة بجدارة، و طالبه بمشاركته الفرحة بدل الدوران في حلقة التشكيك المفرغة تلك. لكن الصديق واصل سخطه وبرمه، وأبى إلا أن يعيد ويزيد في مسألة الواسطة التي "لا بد منها" حسب معتقده سيء النية. "لا تحلف يا صديقي، قلت لك أن الموضوع لا يمكن تصديقه. هل يعقل أن يوظفوك بمثل هذا الراتب وبشهادتك الحالية؟ كفاك إنكاراً يا صديقي". عندها أيقن أن "حبل شكوك" صديقه أسمك من قشرة مخه، فأدار له ظهره إلى الأبد.

وآخر أتى صديقه والسرور يكاد يبتلعه فيمحوه من الوجود. أخبره أن إحدى المجلات الأدبية قبلت أخيراً نشر أحد أعماله في عددها المقبل، وأن هذا ليس كل ما في الأمر، بل ورئيس تحريرها بنفسه هو من زف إليه الخبر مع بضع كلمات من المديح والإطراء. فرد عليه بصوت لا يكاد يسمع من أثر الصدمة: "معقول؟ أية قصائد ستنشر المجلة؟ لم أتوقع ذلك! لا أقصد الإساءة، لكن لا شك أن في المسألة خطأً أو مجاملة. اسمع ياصديقي، أقولها لك صادقاً، أنت لم تخلق للشعر، لماذا لا تستثمر وقتك في شيء تجيده؟ فكر في الأمر"، ثم لم يره بعدها.

قديماً قال أحد الشعراء: ولا تقطع الإخوان في كل زلة/ فتمسي وحيداً ليس يقفوك تابع. و لكن ما فائدة أن يقفوك صديق لا يحب لك الخير و لا يتمناه لك، و بدل أن يسند ظهرك، أو يحمي ظهرك، تجده، "من وراء ظهرك"، ينسج حولك الأكاذيب، و يقلل من شأنك لدى الناس، و يضمر لك في صدره حسداً و غيرة يأكلانه؟ و ما فائدة الصديق الذي إن حاصرتك أزمة ما و تخلى عنك الناس تظاهر بأنه لا يرى شيئاً و لا علم له بشيء مما ألم بك؟ أو كما يقول كونديرا في نفس الرواية المذكورة سابقاً: "إذا ضربتك الكراهية، إذا اتُهمت، أُلقي بك طعاماً للوحوش، فيمكنك توقع ردتي فعل من جانب الناس الذين يعرفونك: بعضهم سينضم إلى الطغمة، و الآخرون سيتظاهرون، بتحفظ، بأنهم لا يعرفون شيئاً، لا يسمعون شيئاً، بحيث ستستطيع الاستمرار في رؤيتهم والتحدث إليهم. هذه الفئة الثانية، المتحفظة، المرهفة، هي فئة أصدقائك. أصدقاء بالمعنى الحديث للكلمة".

أذكر أنني في الماضي القريب، قبل عقد من الزمن تقريباً، كنت أردد دائماً مقولة أحد الحكماء " كثير الأصدقاء لا صديق له". كنت مؤمناً بذلك نظرياً وممارسة. لكن تغير نمط الحياة، بتأثير "الشبكة العنكبوتية" أساساً، جعلني "مدمن صداقات". غير أن الأواني تنضح بما فيها عاجلاً أو آجلاً، مما أدى في النهاية إلى تفسخ الكثير من العلاقات، كقشور البصلة، واحدة تلو الأخرى. والآن عاودني إيماني القديم، مضافاً إليه اعتقادي أن "قليل الأصدقاء لديه أصدقاء".

وأبقى مع ذلك أقل جذرية بخصوص الأصدقاء من أبي الطيب المتنبي مثلاً، الذي يخبر الأمير سيف الدولة أن صديق الإنسان الحقيقي هو نفسه، وليس هو الشخص الذي يناديه بقوله "صديقي" ولو كثرت كلمات التجمل المصطنع وادعاءات الصداقة الزائفة، وهو المعنى الذي يحمله إلينا بيته الخالد: خليلك أنت لا من قلت خلي/ و لو كثر التجمل و الكلام.

تعليق عبر الفيس بوك