على باب مكة

عزيزة راشد

عندما أشرقت شمس الصباح، سمعت طرقاً خفيفاً على نافذتي المُطلة على الكعبة المُشرفة بالمسجد الحرام في مكة المُكرمة، كنت لا أغلق الستارة كوني أنام وعيناي مركزتان على الكعبة، فكان آخر مشهد أغمض عيني عليه منظر الكعبة المشرفة والطائفين الذين يطوفون بها ليل نهار، تمعنت في الطارق فوجدتها حمامة من حمائم الحرم الشريف المقدس كانت توقظني لابدأ يومًا جديدًا من الروحانية الدينية، وتتعدد الروايات حول حمام الحرم فبعضها يرجح أنّ حمام الحرم هو نسل الحمامتين اللتين وقفتا على غار ثور لحماية النبي صلى الله عليه وسلم من الكفار ولصرف أنظارهم عنه حينما كانوا يجدّون في البحث عنه، وتذهب رواية أخرى إلى أنه من بقايا حمام الأبابيل التي رمت الحجارة على أبرهة الحبشي عندما أراد هدم الكعبة، ومن قدسية حمام مكة إن تمّ صيده فعلى الصياد فدية.

أفتح عيني الناعسة على نافذتي المطلة على الكعبة الشريفة، أرى تلك الأفواج التي تأتي من كل فجٍ عميق، البعض يرتدي الأبيض وآخرون يرتدون الأسود وكلهم قد عقدوا نية العبادة الخالصة، يتسابقون للدخول لصحن المسجد والتشرف بلمس الكعبة والطواف حولها، عندما تدخل المسجد الحرام تترآى لك الكعبة المشرفة شامخة تتوشح بسواد عاطر منقوش عليها آيات قرآنية بخيوط من الذهب تعظيماً لشعائر الله، والكسوة من الحرير الطبيعي الخالص نحو 670 كيوجراماً من الحرير و150 كيلوجراماً من أسلاك الذهب والفضة ويُدهن بالصمغ لتثبيته، وتكلفة كسوة الكعبة المشرفة 17 مليون ريال سعودي، ابتدأ الكسوة ملك اليمن تُبّع الحميري بعد دخوله لمكة فكان أول من كسا الكعبة وصنع لها باباً ومفتاحاً، تلاه قُصي بن كلاب الجد الرابع للرسول صلى الله عليه وسلم، ثمّ قريش وبعدها النبي صلى الله عليه وسلم وبقية الخلفاء الراشدين ومن جاء بعدهم، ومما نفتخر به كنساء أن امرأة تدعى نتيلة بنت جناب ساهمت في كسوة الكعبة المشرفة مما يدل على مكانة وهيبة المرأة في الجاهلية والإسلام كذلك.

وقد سُميّت الكعبة بهذا الاسم كونها بناء مربعاً ومكعبًا، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّ مسح الحجر الأسود والركن اليماني يحطان الخطايا حطاً، ومما جاء في الروايات عن حادثة تعرضت لها الكعبة المشرفة أنّه كسر حجر من أحد أطراف الركن اليماني في عهد السلطان العثماني مراد الرابع وتم إرجاع الجزء المكسور ولصقه بمادة الرصاص وقد بقي أثره حتى الآن، ويطوف بالكعبة المشرفة كل يوم وليلة سبعون ألفاً من الملائكة، وفي داخل الكعبة المشرفة توجد بلاطة واحدة فقط باللون الأسود تحدد موضع سجود النبي صلى الله عليه وسلم.

ويُعتبر مقام إبراهيم هو موضع الحجر الذي كان يناول إسماعيل أبيه إبراهيم منه لبناء الكعبة، ومن معجزات بناء الكعبة أنّ الحجر أصبح ليناً فغاصت فيه أرجل إبراهيم عليه السلام فطبع أثر رجليه على الحجر والباقي حتى الآن، وللحجر الأسود والمقام بركة تضاهي بركة الشفاء من الأمراض، وكذلك بركة ماء زمزم والذي يعتبر نهراً من أنهار الجنة تنبع عينه المتدفقة من تحت أعتاب الحجر الأسود، وقد فجرعيونه الثلاثة جبريل عليه السلام لهاجر التي كانت تبحث عن الماء لولدها إسماعيل الذي كان طفلاً صغيراً، عندما تركهما إبراهيم عليه السلام في تلك البقعة الجافة بوادٍ لا زرع فيه ولا ماء، فكان جوع طفلها الصغير وبكاؤه يجعلها تعدو وتمشي مسرعة ساعية بين الصفا والمروة سبع مرات باحثة عن الماء في وادٍ شديد القفر والحرارة والحصى، فنظرت السيدة هاجر إلى السماء واستغاثت، فأمر الله جبريل عليه السلام بتفجير الماء من الأرض وإخراجه لها، فضرب جبريل عليه السلام الأرض بعقب قدمه فأنفجرت المياه من باطن الأرض ففرحت السيدة هاجر وأخذت تجمع الماء بقولها: زم زم، وهي كلمة تعني: تجمع أيها الماء، باللغة السريانية لغة إبراهيم عليه السلام، ومن بركة ماء زمزم أنّه يتفوق على الماء العادي في نسبة المواد القلوية بفارق كبير جدًا، فالماء العادي تبلغ مواده القلوية 350 مليجراماً بينما تبلغ المواد القلوية في ماء زمزم 835 مليجراما، مما يدل على قدرته على الشفاء من بعض الأمراض "فماء زمزم لما شُرب له" .

ساحة الحرم المكي مدعاة للتأمل والتبصر، أول من استوطنها كانت قبيلة جرهم ثم تبعتها قبيلة خزاعة، وعلى أرضيتها كانت تسكُن قريش، عبدت عليها أصنامها وأقامت أسواقها، يعبرعليها فرسانها للقتال وتمشي الإبل عائدة من تجارة الشام، ويستريح الحجيج على أرضها، وعليها عبرت أفيال أبرهة الحبشي متوغلة بين جبالها الوعرة، وفي سمائها طارت الطير الأبابيل تحيط بها جبال حجارتها من سجيل، أرض مقدسة مشى عليها النبي صلى الله عليه وسلم وزوجاته وأهل بيته، هكذا كانت مكة وستكون للأبد لأن لها ربٌ يحميها.

تعليق عبر الفيس بوك