بين الشعر والسينما

عهود الأشخرية

سأتحدَّث هُنا في هذا المقال عن لقائي في برنامج (انطباعات سينمائية) مع الصديقة أمل السعيدية، لأهمية الموضوع بالنسبة لي وبالطبع لآخرين ممن يهتمون بالشعر أو السينما. تحدثت عن أفلامي المُفضلة وعن أهمية السينما بالنسبة للشاعر، ذلك الضوء الذي يربط الجمال بالجمال، فهنالك الكثير من الأفلام حين تتابعها تشعر أنّك تقرأ ديوان شعر من كمية المشاهد الشاعرية التي تحويها. سأُلخص هنا بعض ما تحدثنا عنه في تلك الحلقة على الأقل حتى يبدو ما نؤمن به حقيقياً.

في البداية تحدثنا عن السينما الإيرانية بحكم أنني شغوفة جدًا بها، وتابعت أفلامًا كثيرة لمخرجين كثر، خصوصًا أفلام المخرج مجيد مجيدي والذي تحدثتُ عن أفلامه في مقالات سابقة مثل: ألوان الفردوس، باران، طائر أبو الحناء وزقزقة العصافير، هذه الأفلام التي أعطت طابعاً شاعرياً خاصًا جدًا في نطاق اهتمام مجيد مجيدي بالطفولة والموسيقى والإنسان والحس المرهف حين يتعلق الأمر بالمشاهد الروحية والوجودية. تجربة مجيد مجيدي ليست عادية على الاطلاق ولا يمكن أن تكون كذلك، فمثلاً بالنسبة لفيلم ألوان الفردوس والذي سبب لي حالة نفسية حين شاهدته في المرة الأولى، لكنها حالة حميدة جداً بالنسبة لي، لأنّها أوقظت شيئًا ما في روحي. فعن هذا الفيلم تحديدًا والذي يلخص السينما الشعرية بصورة مدهشة جداً تقف أمامها للحظات طويلة.

الفيلم الأول الذي تحدثنا عنه "ألوان الفردوس" وهو من أفلامي المفضلة وأعتبر هذا الفيلم قصائد ملونة للطفولة والرؤى، حين يفاجئنا الطفل محمد بكمية الدروس التي يعلمنا إياها مع حالته المختلفة بكونه ضريرًا، لكن حين أنهيت مشاهدة هذا الفيلم قلت في نفسي إنني لا أرى شيئًا مقارنة بما رأيته ببصيرة محمد.

ثم انتقلنا للحديث عن فيلم (باران) الذي يحكي عن علاقة الأفغان بالإيرانيين، القصة التي حدثت في مكان للبناء، حين اضطرت بطلة الفيلم للتخلي عن كونها فتاة حتى تعمل نيابة عن والدها المصاب، فتبدأ القصة الحقيقية بعد ذلك، قصة الحب، والتضحيات، ومحاولة جعل العالم أكثر عدلاً وجمالاً.

وأخيرًا تحدثنا عن فيلم (وداعًا يا صديقي) للمخرج بهزاد بور، والذي يتحدث عن قضية الشهداء الذين رحلوا إلى عالم آخر، فصار الفيلم عبارة عن حياتين، الحياة التي نعيشها، والحياة بعد الموت، حين يقرر بطل الفيلم أن يرحل إلى الحياة الأخرى بعد أن مات كل أصدقائه في الحرب، لكنهم لا يسمحون له بالرحيل بعذر أنّه ليس مستعدًا بعد لوجوده في ذلك العالم، لكن بعد محاولات عديدة ينجح في الوصول، فتحزن ابنته كثيرًا والتي لا تزال مؤمنة أنه ذاهب في رحلة قصيرة ولا تعلم حقيقة أنه ذاهب إلى رحلة لا عودة منها، فحين يلاحظ انتظارها له دائمًا في محطة القطار وانكسارها بسبب رحيله، يأتي ويأخذها إلى ذلك العالم. فكرة هذا الفيلم مجنونة جدًا وكارثية وجريئة وهو أيضاً من أفلامي المفضلة في السينما الإيرانية.

أما عن أهمية السينما فهي مُهمة بالنسبة للشاعر بحكم أنّه يهتم بالتفاصيل، الشاعرة فروغ فرخزاد تقول: "ثمة مهمة أساسية للكاتب ألا وهي الاهتمام بالتفاصيل الصغيرة"، فالشاعر لا يكتفي بالتوقف عند المشهد الذي يأسره، بل يبقى يسكنه للحظات طويلة ربما تمتد لأيام أو أسابيع، أتذكر حين شاهدت الفيلم الساحر (سوناتا الخريف) لانجمار بيرجمان توقفت عند عبارة لمدة طويلة جداً ولم تغادرني لأيام عديدة، بل وجعلتني أفكر في أشياء كنت قد غفلت عنها، ربما لأنني كنت أرى فيها شيئاً ما يُمثل حالتي الشعورية تلك اللحظة حين كنت أطرح تساؤلات عن ما هو المشهد الذي يمكن أن يدعونا للتأمل الوجودي، وكيف يدفعنا بصورة ما إلى لمس الحياة.. برقة وبساطة ورهافة؛ رهافة القلب حين تمر عليه الصور وتمسح عليه، بساطة الأحداث التي يُمكن أن تدهشنا بكمية الشعور فيها، هذا باختصار شديد ما يُمكن أن يحكي عن أهمية السينما بالنسبة للشاعر. وشيء مهم هنا لا بد أن أذكره أنني لا أعني بالشاعر الشخص الذي يكتب فقط.. الشاعر هو من يعيش خارج النص، يكون شاعرًا خارج النص من خلال طريقة تعامله مع الآخر والحياة والألم والمشاعر الإنسانية حسب تعريف فرناندو بيسوا "كن شاعرا في كل ما تفعله مهما كان بسيطاً وقليل الشأن، كن شاعراً خارج النص قبل أن تكون شاعراً فيه".

تعليق عبر الفيس بوك