رقصة سنابتشات المحصَّنة ضد الموت

عبدالله خميس

لا أزال مفتونا بعالم سنابتشات منذ أن استوطنتُهُ منذ نحو أربعة أشهر. تجربتي الأولى له كانت قبل أكثر من عام، في نسخة قديمة منه. لم تكن تلك النسخة صديقةً للمستخدم، لذا لم أعرف كيفية استخدامه فهجرته. أما الآن، فأنا أقيم داخل سنابتشات وأشعر ببهجة كبيرة أنني أسكن فيه؛ حيث الكثير من البشر حولي يشاركونني نفس المتعة: أن نزيح كافة الجدران من حولنا ونكون أرواحا مُشاعة ليلاقيها الآخرون بنفس روح الأخوّة والبوح. البوح، لعلها الكلمة المفتاح لعالم سنابتشات البهيج. إن البوح هو الجامع الرئيسي المشترك بين سكان واحة سنابتشات الحافلة بالمتعة.

* * *

لمن لا يعرف سنابتشات فهو تطبيق اجتماعي للهواتف الذكية، يتيح للمستخدِم إضافةَ أصدقاءٍ يتبادل معهم الصور ومقاطع الفيديو، كما يوفر إمكانية الدردشة النصية. الميزة الكبرى في سنابتشات أنّ المادة التي تبعثها لصديقك قابلة للمشاهدة مرة واحدة فقط ثم تختفي. لا يمكن لمن يستقبل صورتك أو الفيديو الخاص بك أن يعيد إرساله لأحد. المادة تختفي ذاتيا بعد مشاهدة واحدة. هناك في سنابتشات خياران لإرسال ملفات الوسائط المتعددة: (1) إما بإرسالها مباشرة لشخص واحد أو عدد محدد من أصدقائك، وفي هذه الحالة يراها ذاك الصديق لمرة واحدة. (2) أو أن تضيف مادتك المصورة إلى شيء اسمه (قصتي)، حيث يمكن لكل أصدقائك مشاهدتها ولا تصبح مقصورة على فرد بعينة أو عدة أفراد أنت تنتقيهم. وبالنسبة للمواد التي ينشرها المستخدِم في ألبوم (قصتي) فإنها تدوم 24 ساعة. أي يمكن لأصدقائك إعادة مشاهدتها مرارا وتكرارا طوال تلك الأربع والعشرين ساعة قبل أن تختفي. وأيضا تظل المواد في ألبوم (قصتي) عصية على أصدقائك ليشاركوها مع طرف ثالث. هذه هي ميزة سنابتشات الكبرى: الخصوصية. بقي القول أن مدة الفيديو الذي تستطيع إرساله لأصدقائك عبر سناب تشات لا تزيد عن 10 ثوانٍ فقط. وكذا الحال بالنسبة للصور، فعندما تصور صورة فوتوغرافية عبر سنابتشات وترسلها لأحدهم فإن لك الخيار أن تقرر المدة التي يستطيع فيها صديقك مشاهدة الصورة، وهي مدة تتراوح بين ثانية واحدة وعشر ثوان كأقصى تقدير، ثم تختفي الصورة. وفي حال قرر صديقك التقاط صورة للشاشة قبل الاختفاء التلقائي لصورتك فسوف ينبهك سنابتشات أن المستلِم قد قام بالتقاط صورتك عبر برامج تصوير الشاشة الموجودة في الهواتف. أنت ما زلتَ محميا وتعرف مَن يحاول خرق خصوصيتك من ضمن قائمة أصدقائك.

عندما ظهر سنابتشات في البداية (تحديدا في سبتمبر 2011) كان ظهوره بسبب مسألة الخصوصية. فنحن عندما نرسل رسالة نصية أو فيديو أو صورة ثابتة عبر برنامج آخر (كالواتساب مثلا)، فليس هناك أي طريقة نضمن بها أن المستقبِل لن يقوم بتمرير رسالتنا لطرف ثالث. جاء سنابتشات ردا على هذا. ولذا فعند ظهوره ارتبط في البداية بالمراهقين وطلبة الجامعات في أمريكا ليتبادلوا فيما بينهم صورهم الخاصة، لاسيما بين الأصدقاء الحميمين، وذلك بفضل خاصية عدم إمكانية تخزين المواد الواصلة عبره إلى ذاكرة الهاتف وكذا عدم إمكانية تشاركها مع شخص ثالث. انتشر سنابتشات بسبب هذا، لكن سرعان ما ظهرت عوامل أخرى عززت انتشاره وجعلته يخرج خارج إطار فئة الشباب (بين 12 و24 سنة) ليستخدمه الجميع. إنه عنصر الرغبة في البوح للآخرين ومشاركة تفاصيل الحياة مع الناس بدون أن يترتب على الأمر أية تبعات. من منا لا يريد ذلك؟ من لا يريد أن يتشارك لحظاتٍ تخصه مع رفاقه، ويرى ماذا يفعل رفاقه، والكل مدرك أنه لا ضررَ سيترتب على ذلك لأيٍّ من الطرفين؟ هنا السر الكبير للانتشار الرهيب لسنابتشات وتحوّله إلى واحد من أقوى وسائل التواصل الاجتماعي قاطبة.

يقول البعض الآن أن الفيسبوك قد أصبح برنامجا عجوزا، لا يستخدمه إلا كبار السن. فيما يراه البعض برنامجا نخبويا يستخدمه من يجيدون الكتابة. هذا قول متطرف بالطبع لكنه مؤشر على الدور الجديد الذي أصبح سنابتشات يلعبه في حياة الناس. من يقولون بشيخوخة الفيسبوك فإنهم يجعلون سنابتشات القوة المضادة له، بوصفه معبّرا عن روح الشباب. لا يمكن إنكار الطاقة الشابة التي يتمتع بها سنابتشات، فهو يجنب المرء عناء الطباعة ويقول بالفيديو والصورة ما لا تقوله الكلمات الخرساء. وهو مناسب للشباب من طلبة المدارس والكليات كون هؤلاء في مرحلة بناء العديد من الصداقات ولديهم مئات الزملاء في المدرسة والكلية، ولديهم طبيعةُ حياةٍ فضوليةٍ تتطلب التشارك. تتطلب -في الحقيقة- تشاركا مزدوجا: أن تعرِضَ واقعَ يومك للآخرين، وأن ترى واقعَ يومهم معروضا أمامك. أليس هذا كل ما يمثله سن الشباب؟ التشارك! هذا شأنٌ كان الشبابُ دوما بحاجة له: المشاركة. لكن ليس الشباب وحدهم من يحتاجونه، فهناك آخرون لديهم هذا الاحتياج يتمثلون في أفراد المجتمع من الفئات الأكبر سنا، كما تحتاجه الشركات والمؤسسات التي تنظم فعاليات وتحتاج إلى وسيلةً لبثها شبه حية لحظة حدوثها.

أصبح سنابتشات اليوم مطلبا حيويا ورخيصا للغاية للشركات لتروج لفعالياتها. فما عليك إلا دعوة السنابرز الناشطين الذين يملكون عددا هائلا من المتابعين وسيغطون لك فعاليتك أفضل من أية وسيلة تقليدية أو حديثة متاحة. صار لدينا في عُمان سنابرز تخصصوا في تغطية الفعاليات وهم مدعوون دائما ليكونوا في الصف الأول بين الحضور. السنابر فهمي المعولي (مسماه في سنابتشات هو famiwami) هو واحد من أنشطهم، ولعله أول من انتبه لمسألة أن سنابتشات يمكن له أن يتحول إلى مصدر رزق للسنابرز الناشطين. نشر فهمي المعولي تأملات حول أن السنابرز الناشطين في الغرب قد أصبحت هذه مهنتهم. تدفع لهم الشركات لتغطية الفعاليات لأنهم يملكون عددا جيدا من المتابعين، بينما في عُمان فإن أفضل ما يجنيه السنابرز النشطون هو دعوةٌ لحضور الفعالية وتناول العشاء!

* * *

ما الذي يعنيه لي سنابتشات بصفة شخصية؟ لقد أتاح لي سنابتشات فرصة ذهبية كانت من قبل مستحيلة لأتعرف على حيوات أصدقائي على نحو أفضل. في الفيسبوك نحن متحفظون إلى حد بعيد. ربما نتشارك بعض الأفكار لكننا لا نتشارك لحظات الحياة الاجتماعية اليومية بالصورة والفيديو. في الفيسبوك لا ننشر إلا القليل من صورنا الخاصة. ولا ننشر أبدا أي مقاطع فيديو لحياتنا الأسرية. لماذا؟ لأن كل شيء هناك يمكن أن يؤخَذ ضدنا. خصوصيتنا ضئيلة في الفيسبوك لأن ما ننشره لا يطّلع عليه أصدقاؤنا فقط، ولكن حتى أصدقاء أصدقائنا (الذين لا نعرفهم بالضرورة) يستطيعون النبش في خصوصياتنا. سنابتشات مختلف. إنه يوفر لنا الخصوصية لأننا نتحكم بشكل كامل في الأشخاص الذين نضيفهم كأصدقاء والذين يحق لهم وحدهم الاطلاع على ما ننشره فيه.

في سنابتشات سمعتُ لأول مرة ضحكات صديقاتي اللاتي أعرفهن منذ سنوات في الفيسبوك (ما أثمن أنْ تسمع ضحكة صديقتك للمرة الأولى بكل عفويتها وبهائها). وفيه رأيتُ أطفالا لا حصر لهم يلهون ويملؤون الأرض وداعةً وحبورا. رأيت أفرادا يعيشون الوحدة ويبحثون عمن يدردش معهم في ساعات الليل الأخيرة المضنية. رأيت هدايا اشتراها أصدقاء لعشيقاتهم السريات (دون أن يصرّحوا أنها لعشيقاتهم السريات). رأيت منى تلهو مع قطتها، ولم أكن أعرف أن أغلى ما لدى منى هو قطتها. سمعتُ عفراء تغني وتغني لتبدد وحشتها، ولتخاطِبَ عالَما غير مرئي تبث له لواعجها وتخبره أن صوتها ليس عورة. رأيت صاحبات أعمال ناشئات يحفرن الطريق الجبلي الوعر نحو النجاح ولتمكين أعمالهن في عالمٍ شرسِ المنافسة. في سنابتشات رأيت عشرات البشر من كل شعوب الأرض يتحدثون بلغات لا أعرف إلى أي بلد تنتمي، لكنهم أذِنوا لي بمشاهدة تفاصيل حياتهم بلا أدنى حرج. في سنابتشات يتابع تسنيباتي بشرٌ من أمم شتى لا يفهمون العربية، لكنّ منهم الحريصون باستمرار على أنْ يروا كيف يعيش الناس في بلاد أخرى وماذا يفعلون بيومهم. إذا كنا نقول أن المسرح قد أسقط الحائط الرابع لغرفةٍ ما فصرنا نشاهد حياة الناس في تلك الغرفة، فقد أسقط سنابتشات الحيطان الأربعة جميعَهَا. لقد بات العالم عاريا وجميلا مثلما كان عليه أن يكون منذ بدء الخليقة.

لا أحب المتفرجين في سنابتشات. لا أحب من يشاهدون تسنيبات الآخرين ولا ينشرون شيئا. إنهم متلصصون. فكرة سناب الجذابة هي التشارك المزدوج، أمّا مَن يطّلع على كافة تفاصيل حياتي ولا يشاركني شيئا فلا أحتاج له. أحيانا أقول أن هؤلاء قد يكونون مضطهدين اجتماعيا بشدة بحيث لا يستطيعون التسنيب، ويكتفون بمشاهدة ما يجود به سنابتشات كنافذة السجن الوحيدة ليروا من خلالها العالم. أتعاطف قليلا ولكني لا أستطيع أن أنشغل بالسجناء. سنابتشات هو نافذة حريتي المتجددة. لا أريد أن أفتحه يوما بدون أن أرى فيه الجديد. لذا أضيف دوما بشرا لا أعرفهم ولا أعرف من أي البلدان هم، فقط لأرى حياة متدفقة كالنهر المتجدد. لا أريد السكون. لا أريد الموت.

* * *

وكما في كل وسيلة اجتماعية جديدة للتواصل، ومثلما في كل باب جديد للبوح، فإن الفتيات هنّ دوما الأجرأ. هنّ الرائدات. هنّ مَن يفتحن هذه النافذة الجديدة لنسمة هواء كنّ دوما بحاجة إليها، ليخرجن بواسطتها من سجن الواقع إلى رحابة العالم المأمول. هكذا أرى ريادة الفتاة في سنابتشات قياسا بتمترس الذكور في مناطق طمأنينتهم المعهودة. هكذا أرى جرأة منشوراتهن مقارنة ببؤس منشورات الشباب المحافظة والحيادية حد الملل. لذا سأقول: إن لم تملأ سنابتشاتك بقائمة من صديقاتك الفتيات فإن سنابتشات لا معنى له أساسا في المجتمعات المحافظة.

تعليق عبر الفيس بوك