هيلموت شميدت.. رجل المهمات الصعبة

سعيد البلوشي

رحل هيلموت شميت المستشار الألماني الأسبق، عن عالمنا قبل أسابيع عن عمر ناهز الـ 96 عاما، ولقد كان من أبرز السياسيين الألمان، أستطاع بدهائه السياسي الحفاط على التوازن والسلام في أوروبا وبالتالي في العالم.

ولد هيلموت شميدت في مدينة هامبورج عام 1918، خدم في الجيش الألماني في الحرب العالمية الثانية، ألتحق بالحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني عام 1946. عمل في حكومة فيلي برانت وزيرا للدفاع، ووزير للاقتصاد، ووزيرا للمالية والاقتصاد.

تدرج في مناصب شتى، إلى أن وصل إلى أعلى منصب سياسي في ألمانيا وهو منصب المستشار حين انتخب عام 1974 مستشارًا لألمانيا خلفًا لفيلي برانت زميله في الحزب الديمقراطي الألماني. واستمر مستشارًا لفترتين رئاسيتين حتى عام 1982. مع أنّ فترة حكمه أتت بين عملاقين في السياسة الألمانية، بين فيلي برانت الحائز على جائزة نوبل للسلام وهيلموت كول من الحزب المسيحي الديمقرطي الذي تحققت الوحدة الألمانية في عهده، إلا أنّه لا يوجد في ألمانيا سياسي استطاع أن يحتل مكانة مميزة في قلوب الناس مثله، فإلى جانب عبقريته السياسية والاقتصادية كان يملك كارزيما عالية جدا، إذ حتى معارضيه كانوا يتمنون أن يكون هو ممثلهم والمتكلم عنهم، إذا توقف شميدت عن الكلام وأمعن التفكير، فإنّ الجميع يسكت وينتظر ماذا يقول، وإذا تكلم فإنّه لا يسترسل كثيرًا كعادة الساسة، ولكن يقول ما يريد في جمل معدودة. رؤاه السياسية ونظرته للاقتصاد العالمي المترابط ببعضه البعض جعلت منه مرجعا ومستشارًا في الأمر، وكان يلقب بعبقري الاقتصاد الكوني، وكان يلقي محاضرات بعد خروجه من منصب المستشار في أرقى الجامعات الغربية، وكان دائمًا يحذر جدًا من اتّساع الهوة بين العالم الغني والعالم الفقير وأثر ذلك على الاقتصاد العالمي على المدى المتوسط والبعيد. صديقه كيسنجر قال يومًا، أريد أن أموت قبل هيلموت شميدت، لأنني لا أستطيع تصور حال العالم دونه.. كان هيلموت شميدت شخصية مقبولة حتى ممن لم يكونوا على خطه السياسي.

لقد كان عهد هيلموت شميدت السياسي مليئا بالأحداث إلى درجة جعل من هذا الرئيس أشهر مستشار مر على تاريخ ألمانيا، لقب برجل المواقف الصعبة لأنّه استطاع بحنكته السياسية التغلب على الصعاب والخروج منها أقوى من ذي قبل، لمع نجمه قبل أن يصبح مستشارًا من خلال الدور الذي لعبه أثناء حدوث الفيضانات التي ضربت مدينة هامبورج عام 1962 حيث أستطاع بخبرته الاقتصادية والسياسية أن يلعب دورا هاما في عملية الإنقاذ وتلافى آثار الكارثة التي هددت مئات الآلاف هناك من خلال إشراك الجيش والناتو في تقديم المأوى وفي الإجلاء والإنقاذ. ولما سئل كيف استطاع أن يوفق قانونيا في هذا العمل الجبار، فقال، ما كان يهمني ليس القانون ولكن إنقاذ حياة الآلاف المهددة، وبعدها أثبت كذلك أنّه رجل المواقف الصعبة أثناء اختطاف رئيس اتحاد رجال الأعمال في المانيا مارتين شلاير من الجيش الأحمر لمحاولة الضغط على حكومة هيلموت شمدت بالإفراج عن الإرهابيين القابعين في السجون الألمانية منذ عام 1972.

سميت فترة شميدت بالخريف الألماني مع ارتباط ذلك بالأزمة الأمنية الثانية وهي اختطاف طائرة تابعة للخطوط الجويّة الألمانية لوفتهانزا من قبل إحدى الفصائل الفلسطينية والهبوط بها في مطار مقديشو بغيّة تصعيد الضغط على الحكومة الألمانية بالإفراج عن أعضاء الجيش الأحمر هؤلاء، وقامت حينها قوات ألمانية خاصة بتحرير الرهائن وعددهم 86 راكبًا.

لقد واجه في تلك الفترة أزمات اقتصادية صعبة استطاع الخروج منها بنجاح باهر إلى حد أطلق عليه السياسي العبقري.

ما ميز عهد شميدت على المستوى الأوروبي هو أنّه كان من المؤيدين جدا لفكرة أوروبا الموحدة، واستند في ذلك على ثلاثة مبادئ استراتيجية وهي المحافظة على تكامل الموقفين الفرنسي الألماني، والمصالح الأوروبية المشتركة والدفاع الموحد، وضع حجر الأساس للعملة الأوروبية الموحدة اليورو الذي رأى النور في تسعينيات القرن الماضي.

مع أنّ شميدت كان يتابع سياسة فيلي برانت في سياسة التقارب مع الكتلة الشرقية، ولكن كل ذلك دون الاستعجال للتوصل إلى نتائج سريعة. أسس مع الرئيس الفرنسي آنذاك فاليري جيسكار ديستان القمة الاقتصادية العالمية.

من أبرز ما توج به عهده هو ما يسمى باتفافية الناتو المزدوجة، عندما بدأ السوفيات بتحديث الصواريخ النووية المتوسطة المدى ذات الرؤوس المتعددة رأى هيلموت شميدت أن استراتيجية الردع والردع المضاد في عهد الحرب الباردة قد اختل توازنها، ورأى خطرًا على أوروبا الغربية في ظل الخطوة السوفياتية، وما زاد التخوّف هو الاجتياح الروسي لأفغانستان آنذاك. طالب شميدت بتحديث الصواريخ الأمريكية المتوسطة المدى على أن يكون هذا الإجراء مصاحبا لمباحثات سلام من أجل هدم هذه الصواريخ. لذا طالب هيلموت شميدت في خطابه في لندن في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية بإجراءات مضادة للخطوة السوفياتية لحفظ التوازن الذي يبقي على استمرار السلام في أوروبا.

بناءً على هذا الطلب من شميدت تقرر في اجتماعات ديسمبر 1979 إنشاء جيل جديد من صواريخ أمريكية من نوع بيرشنجII وتوما هوك كإجراء مضاد ولإعادة حفظ التوازن في إستراتيجية الردع والردع المضاد القائم بين الكتلة الشرقية والغربية. لقد نجحت هذه الخطوة المزدوجة من هيلموت شميدت وتمّ هدم الصواريخ المتوسطة المدى بين الكتلتين في سنوات لاحقة.

بعد زيارة هيلموت شميدت إلى المملكة العربية السعودية عام 1976 لعقد صفقة شراء السعودية لأسلحة ألمانية بدأت الاتهامات تنهال على شميدت وبدأت إسرائيل تلوح كعادتها الدائمة بسلاحها المفضل وهو العداء للسامية الذي لا تألو جهدا في التلويح به دائما في وجه كل من ينتقد سياساتها.

مناحيم بيجن رئيس الوزراء الإسرائيلي قال إنّ شميدت يريد أن يشتري البترول العربي رخيصًا مقابل سلاح غال للعرب وكل ذلك بدماء الشعب اليهودي. وعندما أظهر شميدت تعاطفا مع الفلسطينيين وأنّ الألمان يتحملون مسؤولية أخلاقية بسبب تشريد شعب من بين مخرجات الحرب العالميّة، خرح إسحاق شامير وزير خارجية حكومة مناحيم بيجن متهما شميدت بأنّه يقف مع من يريدون تكملة ما لم يكمله هتلر وهو القضاء على الشعب اليهودي.

مع أنّ الألمان يعرفون جيدًا مدى الحساسيّة التاريخية التي تربطهم مع اليهود والسياسات التي تدور في ذلك الفلك، إلا أنّهم هذه المرة ضاقوا ذرعًا من الاتهامات المتكررة بالنازية وباتوا لا يتحملون ذلك وأرادوا أن يروا نهاية لتلك الاتهامات، لأنّهم حسب رأيهم لا يتحملون كأجيال لاحقة أي مسؤولية مباشرة على ما جرى لليهود من إبادة جماعية وكذلك لبعض الأقليات الإثنية الأخرى. لذا وقف الجميع هذه المرة، حتى الأحزاب المعارضة في صف هيلموت شميدت ضد تصريحات بيجن، ولكن هذا الأخير لم يلق بالا على ردات فعل الألمان، بل كان قاسيا تجاه الشعب الألماني واستمر في كيل التهم وتذكير الألمان بماضيهم طالبا منهم أن يظهروا دائما وأبدًا الشعور بالأسى إتجاه ما جرى لليهود، لأنّ هذا ببساطة تاريخهم الذي لا يجب أن يتبرأوا منه، لأنّهم على حسب مزاعم بيجن كانوا يصفقون لكل انتصار لهتلر وما كانوا ليبتعدوا عن النازيّة لولا شعورهم الأكيد بالهزيمة المدويّة من خلال التحالف العالمي الذي اجتمع ضدهم.

مع أنّ هيلموت شميدت في أيامه الأخيرة كان قعيد كرسي متحرك، ولكنّه كان بكامل قوته العقلية ورأيته ضيفا في قنوات تلفزيونية ألمانية وهو يرد على أسئلة الصحفيين والمذيعين.

said21040@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك