التزامن والتماثل

إيمان الحريبيَّة

لم يكن تطوُّر الأمم الأوروبية في الماضي معتمدًا على الطفرة الصناعية أو عصر الكشوفات الجغرافية، كما لم يكن معتمدا على الإنجازات المادية، ولا حتى محصلة الحظ أو التمني، بل أتى بناءً على جُهود مضنية تكبدها الأوروبيون في الوقت الذي سُمِّي بـ"عصر النهضة" الذي يُمكن أن نقول إنَّه مرحلة حاسمة في التاريخ تولَّدتْ فيها الأفكار وتجدَّدت فيه الرؤى نحو الإبداع، وقد أجمع أبرز المفكرين والفلاسفة في ذلك العصر -ومنهم جان جاك روسو، وجون ستيوارت، ودي كارت- على قيمة الإنسان التي استقى منها قيمة العمل وخدمة الأوطان وكيف يُمكن استنهاض المجتمع؛ ليؤهل بذلك كلَّ المؤسسات لأن تلعب دورها في التوجيه والتنوير، وفق ضرورة مُلحَّة لاستنهاض الوعي الجمعي وغرس قيم الأصالة؛ لمواجهة تحديات تلك الحقبة، ولإيجاد جيل عالي الهمَّة ماضٍ بعزيمة نحو بناء الحضارة، دون أن يتناسى الأجيال القادمة.

... إن المجتمع المجتمع بخصائصه ليُشبه مراحل تكوُّن الإنسان؛ فهو ينشأ ويكبر ويشب ويشيخ، وفي كل مرحلة من هذه المراحل يوجد قاسم مشترك هو روح العمل ومواصلة البناء، التي تبدأ من نقطة التأسيس وتنمو لمرحلة المواصلة ومضاعفة الإنتاج والأخذ بتلك الخطط والبرامج والإستراتيجيات الرصينة إلى حيِّز التطبيق والتنفيذ الفعلي بتدرُّج مدروس دونما استعجال، وندعم ذلك بقيم مطلوبة كالجد والاجتهاد والتأنِّي والصبر، ونسير على الدرب والنهج والخطط بروح إيجابية بعيدًا عن التشاؤم والتنظير، إلى واقع التطبيق والعمل الجاد.

وقياسًا على ذلك، فإنَّ صياغة أهداف هذا الاستنهاض والتوجيه والغرس القيمي ووضع الإستراتيجيات الفاعلة في المجال الإعلامي والثقافي المجتمعي بجانب وضع المعايير القيمية أساسا للحراك الرأسي والاصطفاف الوظيفي والترقي المهني ووضع قوانين حاضنة وداعمة ومعزِّزة للقيم الوطنية والإنتاجية، وفي رأيي أن ذلك لن يتحقق اعتمادا على الفكر المجرد والتنظير، وإنما وفق عملية توظيف للأفكار على أرض الواقع، وأن تجد هذه الأفكار من يُتابعها ويحرص على تنفيذها، وأن يعتمد على الملاحظة الفاحصة والنقد البناء والرأي المتزن، وأخذ ضرورات المرحلة، وأن نبتعد عن المقارنة التي يُمكن أن نقول إنها في غير محلها، مع ضرورة الأخذ بعين الاعتبار أنَّه من أوجب شروط المقارنة أنْ تكون كل هذه الأمور -مجتمعة- مبنية على التزامن والتماثل.

تعليق عبر الفيس بوك