ليلة عزلة في مسقط

أمل عامر السعيدية

أجلس في هذه الليلة الباردة وحيدة في غرفتي في مسقط. ومع ذلك لا أحس بالوحدة ولا أريد شيئاً من العالم غير هذه اللحظات التي استلقي فيها باسترخاء شديد بعيداً عن صخب النّاس. يحلو للإنسان أن يهرب من نفسه كي لا يُفكر كثيراً بما قد يتسبب في إزعاجه، أما أنا فأظن أنني امتلك من الجسارة ما يكفي لأن أواجه كل مشاعري وأفكاري ومواقفي من كل شيء. إنّ النّاس يقطعون علينا خلوتنا مع ذواتنا ومعهم نلعب أدواراً مختلفة، نمزح أحياناً ونضحك أحياناً أخرى لكننا قد لا نكون كائنات تمتلك حس دعابة في حقيقتها، لكن وجودنا معهم دفعنا للامتثال إلى ما لا نُريد. ديفيد هنري ثورو في كتابه الذي أحب جداً "ولدن" كتب نصاً من أحب ما قرأت لقلبي عنوانه "العزلة"، أثر فيّ كثيراً، خصوصاً عندما قال إنه لا يحب حتى حضور أصحابه الخيرين. وسأل سؤالاً مهماً أعبر عنه بأسلوبي هنا، لماذا نحس بالفراغ حتى عندما نكون برفقة أصدقائنا أو أهلنا؟ يحدث أحياناً أن نكون مع مجموعة من النّاس، لكننا في دواخلنا نغيب عن إيقاع مجلسهم، ونحس بأننا غرباء، ونود لو أمكننا المغادرة بأسرع ما يُمكن.

هذه الليلة باردة، ابتعت قهوة سوداء من مقهى قريب، رائحتها طيبة، شاهدت فيلماً وثائقياً عن الحيتان، ثم تابعت قراءة الجزء الأخير من كتاب نشأة النظام الأبوي لغيردا ليرنر، استمعت إلى أغنية famous blue raincoat بصوت جوان بيز وهي بالمناسبة مغنية فلكور أمريكية رائعة، أسمع هذه الأغنية خمس مرات على الأقل يومياً، تبدو ليلة سخية، وكاملة، يناسبها أن أقول على طريقة ديفيد هنري ثورو: "لست أكثر وحدة من الطائر الغواص، طائر يضحك عالياً، أو أكثر وحدة من بحيرة ولدن ذاتها. أين رفقة البحيرة الوحيدة من فضلك؟ ومع ذلك لا تحوي شياطين زرقاء، وإنما ملائكة زرقاء بلون المياه اللازوردية. الشمس وحيدة، عدا في الجو الضبابي، حين تظهر أحياناً وكأنها اثنان، ولكن الأخرى شمس زائفة".

ثم إنني تعبت من إحصاء خساراتي الشخصية في العلاقات الإنسانية التي أخوض فيها بكل ما أملك من صدق وحماس دفاعاً عن حضور الذين أحبهم في حياتي واحتفائي بهم على الدوام. لقد كانوا دائماً الأشياء التي لا تتوقف عن الرحيل، الأشياء التي تذهب. ولا أعلم كم هم الأصدقاء الذين عولت على بقائهم لكن ما انفكوا بأن تأخذهم الحياة ببلادة إلى حيزها البارد والخشن والمؤذي. يالها من قسوة. لقد بات من الصعب بمكان أن أسمح لنفسي بأن استمر في هذا البحث المربك عن آخرين، أنا أتكئ الآن على هذا الثراء الذي تمنحه لي الحياة بينما أكون لوحدي، ويأتيني في غاية الكثافة مثل ملاك يطرق النافذة لكنني هذه المرة أفر إليها لأفتحها.

سألت نفسي أحياناً، هل الإنسان كائن وحيد؟ لقد كبرنا على أنّ الإنسان اجتماعي بالضرورة، لكنني حتى الآن أحاول أن أقدم قراءاتي الخاصة عمّا أكون عليه. ربما يعنون بأنني كائن اجتماعي لأنني استخدم بالضرورة هذه اللغة التي كونت وعيي، ومنحتني لبنة التفكير الأولى بطريقة الجموع. وحاجتي لها ستستمر حتى أتعلم واتثقف وأعيش داخل المدن التي صقلتها يد هذه الجموع منذ بداية التاريخ. لكن هذا كله لا يعني ضرورة الاتصال بأحد، إنّ أهم ما يمكن أن يشكل بالنسبة لي ضرورة بالغة هو حيازة مفتاح غرفة شخصي، استطيع أن أقفل به الباب، بعيداً عن الضوضاء، قريبة من نفسي التي لا تضطر إلى أن تكون عارية وناقصة وتعاني من التقشف تماماً كما هي عليه دوماً. للأسف مسقط لا تُساعد كثيراً على حيازة هذه الهالة الفضية حول الكائن المُنعزل عن آخرين؛ فلا يكف المزعجون عن مضايقتك بينما تمشي على البحر وحيداً ولا يوجد مساحة لأن تذرع الشوارع كما فعل بطل النائم في رواية جورج بيريك بمحاذاة البنايات الشاهقة القديمة والحديثة. والسيارات تساهم في تعذيبي، تبدو لي خانقة، وكم أنا بحاجة للتحرر والانطلاق في رحلة مشي لوحدي مع فضاء مسقط.

تعليق عبر الفيس بوك