كُفُّوا عن صداقتهم!

أسماء القطيبيَّة

"كفوا أيها الآباء عن محاولة تكوين صداقة مع أبنائكم"، قرأتُ هذه العبارة ذات مرة في إحدى المجلات التربوية، وبدت لي لأول وهلة عبارة غير منطقية؛ فالمنطق يقول إنَّ الصداقة بين الأهل وأبنائهم ستوفِّر على الآباء الصعوبات التي تواجههم عادة في التربية. وتجنب الأبناء الوقوع في مشاكل لا داعي لها بفعل الاستشارة التي يقدمها (الآباء الأصدقاء). ولكن: هل يُمكن أن تنشأ صداقة حقيقية بين الأهل وأبنائهم فعلا؟ في الحقيقة لا أعتقد أنَّ أمر الصداقة هذا يمكن أن يحدث مهما كانت درجة التقارب بين الأهل وابنائهم لأسباب كثيرة منها فارق السن الكبير، الذي يترتَّب عليه اختلاف الاهتمامات. وحيلولة دور الناصح والرقيب الذي يمارسه الأهل إلى تعميق العلاقة مع أبنائهم إلى الحد الذي يمكن تسميته صداقة.

إنَّ أساسَ علاقة الآباء بالأبناء هي التفهم، تفهم الآباء أن أبناءهم يملكون شخصياتهم المستقلة التي لا تشبه شخصيات آبائهم بالضرورة، وأن الاختلاف بين جيل الآباء والابناء سيشكل فجوة طبيعية في العلاقة يجب تقبلها؛ لذا ففي القول المتداول "لا تحملوا أولادكم على أخلاقكم فإنهم خلقوا لزمان غير زمانكم" وفي لفظة "لا تربوا أولادكم كما رباكم آباؤكم، فإنهم خلقوا لزمان غير زمانكم". وهو قول عظيم يجب على كل مُربٍّ التفكير مليًّا فيه والتصرف على أساسه. ولعلَّ عدم تقبل الأهل لمسألة الاختلاف هو سبب غالب المشاكل بينهم وبين أبنائهم، وهو سبب شكوى وتذمر الآباء الدائمين من عدم قدرتهم على فهم أبنائهم مرددين العبارة الأثيرة "لم نكن هكذا يوما".

وعلى الجانب الآخر، على الأبناء تفهُّم أن مقارنة الأهل بين سلوكياتهم عندما كانوا في عمر أبنائهم، وسلوكيات أبنائهم لن يتوقف على الأغلب؛ لذا فعليهم تقبل ذلك، وتجنب الشجارات التي لا داعي لها.

للآباء الذين يستسلمون للراحة ويتوقفون عن تحقيق ما يطمحون إليه، ناذرين حياتهم لتربية الأبناء "كفوا عن محاولة تكوين صداقة مع أبنائكم"، واهتموا بجعل حياتكم أفضل، حسنوا من أنفسكم، وطوروا من شخصياتكم، فأنتم النموذج الأول والأكثر تأثيرا في حياة الأبناء. كونوا نماذج ناجحة وباعثة للفخر، فالتأثير الذي تتركونه في أبنائكم يكمن في أفعالكم لا نصائحكم. وليس أسوأ من آباء يمارسون كل أنواع الضغط على أبنائهم لتحقيق ما عجزوا هم أصلا عن تحقيقه متجاهلين قدرات الأبناء ورغباتهم. وأتذكر هنا إحدى الفتيات المتفوقات وهي تخبرني بمرارة "أنا لا أريد أن أصبح طبيبة، لكن أهلي يريدون ذلك"، وأتساءل: هل ستغفر هذه الفتاة لأهلها بعد مرور سنوات عملها في وظيفة لا تحبها؟ أم أنها ستكرر نفس الخطأ محددة لأبنائها مصيرهم الدراسي والوظيفي بما تراه الأفضل؟

"كفوا عن محاولة تكوين صداقة مع أبنائكم" واتركوا تلك المساحة من الحرية لأبنائكم لاكتشاف الحياة، ولا بأس بالتعثر والوقوع مجددا؛ فهذا بالضبط ما يصنع استقلاليتهم ويكون شخصياتهم. لا تحاصروهم بمخاوفكم وقلقكم الدائمين، ولا مانع من التغاضي عن بعض الأمور؛ فالتربية ليست أوامرَ صارمة ولا تعليمات حازمة، وإنما علاقة مرنة لا تخضع لشروط معينة.

"كفوا عن محاولة تكوين صداقة مع ابنائكم"، حتى لا تُصابوا بالإحباط عندما يتضح لكم أنَّ هناك ما لا تعرفونه عن أبنائكم، خاصة في زمن الفضاء المفتوح الذي يحوي الغث والثمين. احرصوا على جعل بيوتكم ملاذا آمنا مطمئنا لهم. فالأسرة المحبة لا بد أن تنتج أبناء محبين. وتذكروا أن الأبناء يملكون عددا كافيا من الأصدقاء الذين يشاركونهم اهتماماتهم وأسرارهم، فكفوا عن محاولة صداقتهم وكونوا فقط آباء وأمهات كما ينبغي لكم أن تكونوا.

asmaalqutibi@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك