طريق الحرير الجديد والحوار بين الأديان .. الحال والمآل

عبد الرحمن السالمي

يُقال "طريق الحرير" على نحوين اثنين: على نحو حقيقي، وعلى نحو مجازي. يحدثنا المؤرخون الاقتصاديون حديث "طريق الحرير" بمعناه الأصلي ـ فيذكروننا بأنّ العالم العربي كان مركزاً تجارياً عالمياً، وقد توسط ثلاث قارات، حيث كان التجار العرب يروجون البضائع بين آسيا وإفريقيا وأوربا، قاطعين البراري والبحار. لكن بعد ذلك تحوّل مركز التجارة العالمي شيئاً فشيئاً إلى الغرب، وقد استفاد من الفجائع التي حلت بالعالم العربي. وهكذا، اختفت تقريباً كل قوافل الحرير التي كانت تربط آسيا بأوروبا داقة بذلك جرس نِذارة نهاية مرحلة تجارية مهمة من التاريخ التجاري للعالم.

على أن العالم العربي بدأ يتحرك من جديد -ابتداءً من الخليج العربي- حيث بدأت المصارف العالمية تفتح فروعاً لها ومناطق لإقامة الأعمال. وها هي ذي دول الخليج سائرة إلى تكوين أسطول جوي بدل أسطول القوافل القديم. وقد رافق ذلك كلَّه نمو اقتصادي قوي تشهد عليه الصين. ومما يقضي بالعجب أن الإثنين معاً العالم العربي والصين كانا شريكين لقرون طوال في طريق الحرير، وهما قوتان تاريخيتان، مما جعل بعض الباحثين الاقتصاديين يتحدثون عن "انبعاث جديد لطريق الحرير"، بمعناه الحقيقي لا المجازي والتاريخي لا الاستعاري. وها هو ذا النقاش الاقتصادي -اليوم- حول طريق الحرير على أشده.

على أن لطريق الحرير الجديدة جانبها الثقافي الذي لا يُنكر. وتُظْهِر عليه مؤشرات عدة؛ فاليوم يظهر على القنوات الفضائية - لا سيما الخليجية منها خبراء صينيون يتحدثون بعربية فصحى مباشرة إلى جمهور عربي، يدخلون بيوت الأسر العربية المتوسطة، مسهمين بذلك في ثورة التواصل بطريق الحرير الجديدة.

في عُمان كانت هنالك مبادرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد في تمويل منظمة اليونسكو لإعادة اكتشاف طريق الحرير 1990-1991 بين البندقية /إيطاليا - أوساكا/ اليابان تلك الرحلة البحرية في اليخت السلطاني ((فلك السلامة)) ، والتي ضمت مجموعة من العلماء والباحثين والصحفيين من أنحاء العالم وتوقفت خلالها في سبعة وعشرين ميناءً تاريخياً . إلى جانب هذه الرحلة البحرية نظمت اليونسكو مسارين بريين الأول من إسطنبول - أكسيان/الصين والثاني أوديسا/ روسيا - كانتون / الصين، ثم موّلت السلطنة اليونسكو لإنشاء الموقع الإلكتروني لطريق الحرير في 2011م، وذلك لأنّها من العمق التاريخي والرابط الإنساني بين الشعوب والحضارات.

والحقيقة أن اليوم -الذي هو زمن التنوع الثقافي والتعددية الإثنية والنزعة الكونية والنزوع إلى التعولم- تطرح من جديد مسألة كيف نتواصل مع غيرنا؟

عندما نسمع في عالمنا العربي عبارة "الحوار بين الأديان" أو "حوار الأديان" ينصرف ذهننا مباشرة إلى شكلين من أشكال هذا الحوار: الحوار الإسلامي - المسيحي، والحوار الإسلامي - اليهودي، على ما بينهما من الاختلاف، وكلاهما حوار لشرق مسلم مع "غرب" مسيحي - يهودي. لكن، قلما نفكر في حوار يتبع طريق الحرير: غرب/شرق، شرق/شرق. والحال أن الحوار المسيحي البوذي غرب/شرق شُرع فيه منذ أمد، وهو ماضٍ في طريقه التي ارتضاها المتحاوران. لكن حوار الإسلام مع الديانات الشرقية لا يزال في بدايته .

وأنا في هذا السياق أذكر مبادرة الفيلسوف الكاثوليكي هانز كونج "الأخلاق العالمية"، والتي لاقت صدى واسعاً بعد الحرب الباردة بدل مفهوم الصدام الحضاري المطروح آنذاك، واعترف في المقابل بالاستفادة من أخلاقيات الأديان سواء أكانت إبراهيمية أو غير إبراهيمية لمجابهة التطورات العالمية.

ونحن في عُمان كانت لنا مبادرة عربية إسلامية مُهمة للشيخ عبد الله بن محمد السالمي تُعنى بـ" القيم المتعارفة" مؤسسة على العقل والعدل والأخلاق؛ لتكون قاعدة الحوار بين الأديان جميعاً، خروجًا عما هو مألوف بين الأديان الإبراهيمية.

قديماً، طغى بين الأديان منطق التنافس والفتح والغزو، وفي هذا الإطار حدث التدافع والتنابذ الشديد بين الإسلام والبوذية. والأيام دول بين الأديان. لكن اليوم في زمن ثورة الاتصال ما عاد هذا المنطق مُجْدياً. لقد فتح عهد ثورة الاتصال على الأديان باباً لطالما ظلَّ موصداً لزمن طويل، وكان عادةً لا يفتح إلاّ عَنوة وقوة وقسوة. واليوم، صار بإمكان الأديان أن تكتب، كل حسب مبادئه "كتاب التعارف" لا "كتاب التناكر" وتهديه إلى الغير.

وهكذا، يمكن أن نجسر هوة عدم التفاهم بين الإسلام -مثلا- ومختلف الأديان الشرقية استناداً إلى المبادئ التالية:

أولاً: يجمع الإسلام بالأديان الشرقية ـ من بوذية وهندوسية وبرهمانية وديانة شنتو ... ـ احترامٌ عميقٌ للبيئة- الطبيعة. وهكذا، فإنّ الإسلام يجد نفسه في تناغم مع البعد البيئي لديانات الشرق كافة. ففيما يخص معاملة النبات- مثلاً- يمكنني -أنا المسلم- أن أورد العديد من الآيات والأحاديث النبوية التي توصي بالحفاظ على البيئة، وبمعاملة النباتات معاملة خاصة حتى في حال الحرب ـ آداب أو أخلاقيات الحرب في الإسلام. لكن، أفضل أن أورد بعض نماذج من سلوكات المسلمين اتجاه النباتات والبيئة:

فالصوفي ابن عربي رسم لنا أعظم صور "الصحبة" بين إنسان ونبات؛ ذلك أنّه لئن كان قد فكر فيما سماه "صحبة غير الأشكال وغير الجنس [من غير البشر]"، قاصدًا بذلك أن صلة "الصحبة" لا تكون فحسب بين الإنسان وجنسه إنسان/إنسان ـ وإنما مطلوب فيها أيضا أن تحدث بين الإنسان وغير جنسه إنسان/نبات، إنسان/حيوان ـ وهو ما عبَّر عنه حين الحديث عن الإنسان وعن "صحبته لما يملكه من الدواب والأشجار، وما يصحبه من ذلك وإن لم يملكه"، فما كان ملك الشيء أو الكائن الحي شرطًا في صحبته. ومقتضى هذه الصحبة معاملة الغير، غير الآدمي - سواء أكان نباتًا أم حيوانًا ـ معاملة رفقة وصحبة ورحمة ورأفة. إذ المطلوب من كل إنسان: "إِنْ رأى شجرة ذابلة لاحتياجها إلى الماء، وإن كان مالكها حاضرًا، وقدر على سقيها في صحبة تلك الساعة حيث استظل بها أو استند إليها طلباً لراحة تعب، أو وقف عندها ساعة لشغل طرأ له ـ فهذه كلها صحبة وهو قادرٌ على الماء، فتعين عليه رعي حق الصحبة أن يسقيها لذلك، لا لأجل صاحبها ولا طمعًا فيما تثمر، سواء أثمرت أم لم تثمر، أو كانت مملوكة أو مُباحة".

وفي سيرة الإمام أحمد بن سعيد البوسعيدي الأزدي العماني، يذكر عنه ابن رزيق أن من مكارم أخلاقه أنّه مضى قبل أن ينتهي الأمر إليه من عُمان يريد سمايل لبعض الوطر، فلما كان حذاء وادي حلفين لفحته الشمس، فتظلل بظل دوحة كبيرة، ثم مضى بعد دلوك الشمس إلى سمايل. فلما انتهى الأمر إليه، مضى ذات سنة من الرستاق يُريد نزوى، ومعه قوم كثير من أحرار وعبيد على ركاب وخيل، فلما كان بحلفين التفت يميناً وشمالاً، فلم ير تلك الدوحة، فقال في نفسه: لعلها ماتت، ثم تتبع أثرها على ناقته، فرأى أصلها قد جفّ، وللشمس لعاب من الحر، فنزل من ظهر ناقته إلى الأرض، ونزل الركب معه، فأمر أن يفرش له حذاء أصل تلك الشجرة التي جفَّ أصلها، فأقال بالقوم في ذلك الحر الشديد، فتعجب الركب منه.

فلما وصل إلى نزوى سأله بعض قضاته الذين صحبوه عن سبب مكثه مع أصل تلك الشجرة التي جف أصلها. فأخبره عن تظلله بغصونها أيام اخضرارها، وقبل أن يفضي إليه الأمر الذي انتهى إليه، فقال له القاضي: أتكرم من لا يعقل وقد مات؟ فقال له: إنما الحُر الذي لا ينسى الإحسان، فمن نسي الإحسان فليس بحر. فينبغي للحر ألا ينسى إحسان الناطق والصامت. فقال له القاضي: حسبي، فإنّه لحكمة لا ينبغي أن ينساها الحر الأريب.

وقد جاء في الحديث النبوي الشريف: (إِنْ قَامَتْ عَلَى أَحَدِكُمُ الْقِيَامَةُ، وَفِي يَدِهِ فَسِيلَةٌ فَلْيَغْرِسْهَا) هذا أساس أول من أسس حوار طريق الحرير الجديد بين الأديان. وأساس ثان يتمثل في معاملة الكائنات الحية، أي الحيوانات هذه المرة:

يروى من حسن أخلاق الإمام سلطان بن سيف اليعربي أنه كان له حب في الخيل، ولم يرض أن تعطى شيئاً من الطعام إلا مع حضوره، خوفاً ألا تعطى ما يكفيها. وحدث أن دخل شهر رمضان -في بعض السنين- فكان كلما صلى المغرب بدأ بإطعام الخيل قبل نفسه، فيقف إلى أن تطعم الخيل بما يكفيها، ثم يطلع إلى الحصن مع زوجاته وأهل بيته.

ثانياً، يجمع بين الإسلام والأديان الشرقية أساس آخر للحوار هو أوبة الإنسان إلى نفسه، والعكوف على خويصة ذاته، بغاية محاسبة النفس ولومها، تحصيلا للسكينة الروحية الداخلية. فالإسلام والأديان الشرقية يلتقيان في البحث عن سكينة النفس بإقامة الصلوات الروحية الداخلية. هذا، ويعد التصوف حفراً للإنسان في ذاته، من أجل استكشاف منابعها التي لا تنضب، وكذلك هي الأديان الشرقية ميالة إلى ضرب من الانعكاف على الذات والانكباب عليها وتحصيل السكينة فيها.

وهكذا، فإنه في الوقت الذي تبحث فيه الحضارة الغربية ـ وقد غالت في جانب الماديات ـ عن معيار ثالث للنجاح في الحياة غير معياري "المال" و"السلطة"، وذلك في "التأمل" وفي "الدهشة أمام الأشياء" وفي "الحكمة"، حسب ما يشهد عليه الكتاب الأكثر مبيعا في أمريكا: "أن نزدهر: المعيار الثالث لإعادة تعريف النجاح وخلق حياة رفاه وحكمة وإعجاب" (2014)

Thrive: The Third Metric to Redefining Success and Creating a Life of Well-Being, Wisdom, and Wonder

للمفكرة الأمريكية أريانا هوفينغتون Arianna Huffington ، في هذا الوقت بالذات يقدم الإسلام والأديان الشرقية طريقاً آمناً وسالماً وسالكاً نحو نجاح، لا يكون مجرد نجاح مادي مرهق ومكلف جداً وغير مضمون النتائج والعواقب.

ولما كان التواصل في طريق الحرير الجديدة تواصلاً بين أهل ديانتين كبيرتين: الإسلام والبوذية؛ فإن كلاً من المسلمين والبوذيين سائرون إلى مراجعة النظرة الغربية التي لطالما صورت البوذيين مسالمين والمسلمين عدائيين. فقد صير إلى الحديث عن "اللقاء" البوذي الإسلامي، وإلى الحديث عن "المشترك" من خلال طريق الحرير. وهو تاريخ امتد على مدى ألف سنة وهو يؤسس للحديث عن "تفاهم ثقافي بيني" بين الثقافتين البوذية والإسلامية

والحقيقة أن هذا الأمر لا يستوي ـ كما خلص إلى ذلك جوهان إلفرسكوغ Johan Elverskogصاحب كتاب: "البوذية والإسلام على طريق الحرير" Bouddhism and Islam on the Silk Road(2010) ـ إلا بإعادة النظر في المرويات المكرسة التي ترسخ الأفكار المسبقة، وتزرع بذور الشك بين الثقافتين. ومن شأن الاستقصاء التاريخي الموضوعي أن يبدد الأفكار المسبقة. كيف يمكن أن يتفاهم البوذيون والمسلمون تفاهما مشتركا؟ وهل سينشئون ثقافة جديدة هجينة خلاسية ممزوجة، تجمع بين ما هو إسلامي وما هو بوذي؟ وهل نحن أمام عهد جديد من التبادل الثقافي البوذي الإسلامي؟ وهل ستؤدي خلافاتهما-بالضد من ذلك- إلى صراعات؟ يجيب الباحث: لا أحد يمكن أن يتكهن بمآل هذا الأمر؛ ولكنه يضيف: لا شك عندي أن التفاعل بين الثقافة البوذية والثقافة الإسلامية ما يزال في بدايته.

طريق الحرير شبكة من طرق التواصلات التاريخية التي جمعت بين آسيا الجنوبية وأوربا والبحر الأبيض المتوسط وكذا أجزاء من شرق آسيا. لكن، ما نكاد ننساه هو أنّ الحرير ما كان البضاعة الوحيدة التي انتقلت بين دول طريق الحرير، بل تمّ تبادل منتجات أخرى من أديان وفلسفات سافرت عبر الطرقات.

والحال أنّ التبادلات الثقافية البينية تضمنت دوماً تبني واقتباس أساليب عيش وأنماط حياة وأشكال سلوك، وهذا هو ما يُسهم في فهم السبب الذي أدى إلى رواج "طريق الحرير"، ولماذا لا زالت تمارس جاذبية كبيرة.

ولا خفاء أن "الاقتباس" كان هو الطريقة الأساسية للبلدان التي تقع على طول طريق الحرير لتتعلم التعاون فيما بينها. قال رئيس الجامعة الدولية للبحر الأسود بمدينة تبيليسي عام 2003: إنّ الاقتباس هو "الطريق الوحيد لكي يتسامح الناس مع مختلف وجهات النظر والأفكار"، وأضاف قائلاً: ""إنّ السبب الرئيس للنزاعات الحالية يكمن في أنّ البشر لا يتعارفون".

وبالتعارف يمكن إعادة خلق روح طريق الحرير الكبرى، صانعين بذلك "الغنى الثقافي بفعل أشكال التفاعل الإيجابية".

فلا غرابة أن تنظر الباحثة فيكتوريا بليدسلاو Victoria Bledsloe إلى تاريخ طريق الحرير بوصفه مجالاً للتفاوض الثقافي والتجاري معًا.

ولهذه الغاية قال أحد الباحثين: "يشكل تاريخ أديان طريق الحرير جزءاً من تاريخ أوسع هو تاريخ الحوار بين الثقافات، وهو حوار أمسى ممكناً بفضل أنشطة تقوية شبكة من الأفراد الذي يملكون مهارات تجارية كافية وحس المغامرة بغاية تجاوز صعوبات التواصل ومخاطر السفر عبر وسط القارة الأوروآسيوية العظيمة".

تعليق عبر الفيس بوك