تجارة الوهم

مريم العدوية

ها هو الشهر الأول من العام الجديد على وشك الانصرام في ألفيتنا، هذه الألفية التي يعتبر فيها التقدم والتمدن سمة في كل بلدان العالم. ومع أننا كذلك نتشدق بامتلاكنا لهذه السمة كالجميع، إلا أننا حقيقة - وفي جوانب عديدة- ما نزال نرزح تحت وطأة الجهل! ولنسلط الضوء على هذا الجانب الذي ستتعالى بشأنه الأصوات مستنكرة الحقيقة وسنطرق باباً وحداً وحسب.

فمما يثير الريبة والغرابة وجود العيادات التي تحمل مسمى التداوي بالأعشاب وما شابهها بينما العلم والتقدم يقدم لنا أسماء مستشفيات ومراكز صحية عالمية في المقابل. ولكي لا يُفهم القصد خطأ ويبدأ البعض بوضع نيّات ومقاصد المقال في غير موضعه فإننا لا نرى مانعاً من هذه العيادات ولكن مثلما تُمنح المستشفيات والعيادات الطبية المتخصصة الرخصة لممارسة عملها وفق ما تمتلكهُ من مؤهلات؛ فإنّه ينبغي كذلك التمحيص فيما تمتلكهُ هذه العيادات مما ينفع الناس، فالأعشاب تحتاج لشخص ذي خبرة وباع طويل في المجال بل ومتخصص على سبيل المثال؛ ليصف المناسب وكذلك القرآن الكريم لو جئنا على جانب اتخاذهُ علاجاً، وإلا لتداوى الناس بذلك في بيوتهم وكفاهم الله مصاريف العيادات المتخصصة، التي للأسف يلجأ إليها الناس بعد أن تتعبهم السُبل الأخرى طلباً للعلاج والتشافي ضاربين عرض الحائط بالمنطق والمصداقية، وحسبهم بأنّها تلك القشة التي ستنقذهم من الغرق.

يقول لي أحدهم وقد زار إحدى تلك العيادات التي تزعم بأنّها تعالج النّاس من الحسد والسحر، إن العيادة كانت مزدحمة جداً وبالكاد استطاع أن يجد له رقماً للانتظار! بل وتفاجأ بأنّها حقاً تتخذ لنفسها نظاماً كنظام العيادات التخصصية من مكتب للاستقبال وآخر لأخذ الاستشارة والعلاج وطبعا آخر للدفع! وكيف لا يكون لأصحاب هذه العيادة وما شابهها كل تلك الأبهة والأريحية وقد منحوا تصريحاً من الجهات المختصة ببيع الوهم للناس. وهنا نسرد ثلاثة أمثلة على تجارة الوهم هذه.

كانت إحدى النساء تشتكي منذ ما يربو على العامين من حالة تباغت طفلتها بالصراخ ويزرقّ لونها ولا تعرف سبباً لذلك، حيثُ نفى الأطباء وجود علة بالطفلة، فما كان من الأم إلا سبيل عيادة الوهم تلك. وهنا وبكل بساطة ودقة جاء شرح الشخص الذي يدعي المعرفة بكل أمور الجن والسحر المشعوذ بأنّ الطفلة جميلة لحد ما، جعل منها تصاب بعين تدعى بعين المقارنة! فهي محسودة وأعطى للأم ماء مقروءا عليه.. وتبيّن لاحقا أنّ الطفلة مصابة بالتهاب اللوزتين بالإضافة إلى لحمية مما يجعل مع تورم اللوزتين وإصابتها بنزلات البرد تصاب باختناق يجعلها تستيقظ مفزوعة تصرخ ولونها يزرق، وقد انتهت مشكلتها بمجرد علاج الالتهاب واستئصال اللوزتين.. ولو أنّ الأم واصلت علاج ذلك الدعي فربما فقدت الطفلة دون الكشف عن السبب الحقيقي لمعاناتها.

وأمّا القصة الثانية فهي عند زيارة أم أخرى لنفس العيادة مع طفلتها الحاملة لمتلازمة داون في شهورها الأولى، وكانت الصغيرة ضعيفة لدرجة تبدو وكأنّها لا تملك أعصاباً؛ لفرط رخاوة بنيتها، فوصف المعالج في العيادة العلاج للأم قائلاً بعد أن تبين ظروف ولادتها: بأنّ الجن سحبوا من الطفلة أعصابها من قمة رأسها كونها ولدت في دورة المياه ومن ثمّ وصف لها زيتاً مع مجموعة من الأعشاب لتدهن به جسم الطفلة. والحقيقة أنّه جاهل لدرجة لا يدرك فيها أنّ الطفلة تحمل متلازمة داون ومن الطبيعي أن تكون أعصابها رخوة وتتأخر كذلك عظام (جافوخ/ مغاغة) الطفل حتى تلتحم وهذا سر ليونة قمة رأسها، ولنتخيل أنّ الأم داومت على المساج بهذا الزيت ولم تعلم بأنّ الأمر يزيد الطين بله عِوضاً عن علاجه وأن طفلتها بحاجة إلى تأهيل وعلاج طبيعي وتمارين خاصة وإلا لتأخر نموها وحركتها بل وقد تصاب بإعاقات حركيّة جراء علاجه ذلك!

أمّا القصة الأخيرة فهي عن رجل أصيب بصدمة عصبية جراء حادثة قاسية في حياته جعلته لا يستطيع قيادة السيارة، بل ويصاب بخوف وهلع إذا ما ركب سيّارة، فتم تشخيص حالته في تلك العيادة بأن داخله جنية تُعد هي الأصعب خروجاً والأشد تأثيراً على الإنسان تُدعى (بأم الصبيان) ومنها بدأ استنزاف مال الرجل؛ ليشتري منهم الماء المقروء عليه! ولجهل هذا الرجل ما زال غارقاً في أزمته ووجعه بينما مكاتب الاستشارات النفسية حاضرة.

فمن المسؤول.. المواطن الجاهل أم الحكومة الصامتة أم تُجار الوهم عن كل هذه الفوضى؟!

تعليق عبر الفيس بوك