السلاح المزخرف

أسماء القطيبية

تقول العرب: "نَكَتَ الأرضَ برمحه إذا ترك فيها أثرا، ونَكَتَ الرجل أي تأمل وتفكر"، ولعلّ من هذين المعنيين جاء المصطلح المتداول للطرفة وهو (النُّكتة)، فهي تترك أثرًا في النفوس يشبه ذلك الذي يحدثه الرمح في الأرض، كما أنّها لا تأتي إلا من فكر مفكر عالم بالأحوال. وقد درج تداول النكتة للتسلية ودرء الملل في المجالس دون ذكر قائلها - والذي يكون غالبا مجهولا- لذا فلا ملكية فكرية للنكتة كما هو الحال في الشعر أو النثر، وإنما هي من النّاس للناس. وللنكتة أنواع عديدة اشهرها النكتة الاجتماعية والسياسية.

النكتة الاجتماعية من أكثر النكات رواجًا كونها تسلط الضوء على أحوال المجتمع وتناقضاته، فهي مثلا تسخر من تسلط بعض الزوجات على أزواجهنّ، أو من اهتمامهنّ المبالغ بمظاهرهن، وذلك بطريقة مبالغة ومضحكة تختصر القضايا المعقدة بكلمات قليلة، وبسرعة البرق يتم تداولها بين الناس دونما الحاجة إلى تحليل وتفسير. وهي وإن كانت لا تحدث تغييرًا كبيرا فهي تفتح المجال للحديث حول الظواهر الاجتماعيّة الجديدة، والتغيرات في المجتمعات وأسبابها، ولعلها أسرع تداولا بين الفئات الفقيرة كون الظروف الاجتماعية القاسية التي تعبر عنها هذه النكت تجعل أفضل طريقة للتناسي هي السخرية وإن كانت مُرة بمرارة الحال.

النكتة السياسية هي السلاح المزخرف الذي تمارس به الشعوب التي ترزح تحت حكم مستبد حربها مع النظام، فهي غالبا تأتي برمزيات تهدف إلى سخرية مدقعة من شخصية بارزة أو تمرير رسالة إلى أصحاب القرار دون أن يتحمل أحد مسؤوليتها فلا يطاله العقاب. يتداولها أولئك الذين يشعرون أنّ حقهم في المشاركة في اتخاذ القرار قد تم سلبه دون حق، وأنّ أصواتهم لا تصل إلى المعنيين. وفي الحقيقة أنّ هذا النوع من النكت ينم عن ذكاء قائليها، فالإسقاطات التي تحويها هذه النكت بدرجة من القوة إلى درجة أنها تستفز حتى أصحاب الكراسي الذين لم تؤثر فيهم مطالبات ومخاطبات متكررة، فهي تدل على وعي شعبي تجاهد لإخماده.

إذا ما انتشرت النكتة السياسية مع الاجتماعية في مجتمع ما فذلك يدل على أن الشعوب وصلت إلى درجة من السأم من الأوضاع التي تعانيها. وإلى قناعة من أن الحديث الجاد المعاد لم يعد ذا جدوى، وهو بلا شك ليس استسلامًا أو رضا بالوضع، وإنّما الهدوء الذي يسبق العاصفة، والذي يستوي على نار هادئة. ولنا في الشعب المصري خير مثال. هذا الشعب الذي عرف بخفة الدم وروح الدعابة حينما وجد الفرصة للاحتجاج والمطالبة بحقوقه لم يتوانَ عن ذلك بل خرج أفرادا وجماعات للمطالبة الجادة بحقوقه، وعبر عن الرأي الذي كان يواريه في الطرائف بحرية وشجاعة منتصرا للحق والعدالة ولحقه في التعبير.

وقد سهلت وسائل التواصل الاجتماعي اليوم تداول النكتة على نطاق واسع وبسرعة أكبر من السابق، بحيث لم تعتد تقتصر على التداول الشفهي، وأصبحت النكتة تحاكي الأحداث السياسية والاقتصادية أولا بأول فلا يكاد يمر حدث سياسي أو قرار حكومي دون أن يتندر الناس عليه، مخففين من وطأته عليهم، ومهدئين من خوفهم حيال تأثيره. ومن المفارقات أنّ النكتة الواحدة تصلك بعدة لهجات في ذات الوقت، مما يدل على أنّ تشابه الأوضاع وتشابه تفكير الشعوب في الوطن العربي أكثر مما تتصور. ومن الملاحظ أنّ روح الدعابة لدى الشعب العماني ظهرت بقوة في السنوات القليلة الماضية، وأصبحت تحاكي الأوضاع والأحداث أولا بأول، وليس آخرها ارتفاع أسعار المحروقات، الخبر الذي استقبله الناس بكم كبير من النكت والتعليقات المضحكة والتي انتشرت أكثر من التصريحات الرسميّة والتحليلات الاقتصادية. وهو أمر جدير بدراسة أسبابه ودلالاته، والذي من خلاله يمكن التوصّل إلى نتائج مهمة عن المجتمع العماني ودرجة الوعي السياسي والاقتصادي التي يملكها أفراده، وعلاقة إنتشار النكتة الساخرة بمقدار حرية التعبير في البلد.

Asmaalqutibi@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك