مذكرات سائحة

شيخة الهنائيَّة

عندما ترى ذلك السحاب المسخَّر في السماء، وتتمعن تفاصيل الأفق، تدرك أن لهذا العالم خالقا عظيما أعظم من أن نتخيل كنهه، وأتعجب من أولئك الذي يعبدون خالقا غيره وهم يرون أنْ لا قدرة لما يعبدون.. ففي الطائرة أنت ترى قطع السحاب المتناثرة تحتك، وترى بعض الركام الكبير يمر فوقك بسرعة عجيبة، كأنها تساق سوقا، وهي بالفعل كذلك؛ فالملائكة هي التي تقودها بأمر الله.

إنَّ تحليقنا في الفضاء الرحب لا يعني أننا مطمئنون لولا رحمة الله وفضله؛ فالأرض تغيب ولا يبقى سوى قطع السحب كجليد طاف فوق بحيرات زرق كل أحد يفعل ما يناسب وقوفه أمام الله تعالى فاختلاف الناس بأشكالهم وأجناسهم وأعراقهم ومعتقداتهم يجعلك تكرر هذه العبارة.

ذكرتني سيريلانكا بالهند، حيث كلاهما تلتحف الخضر وتكتسي به كعروس أصبحت في أبهى حلة وأجمل طلة. مطارها كان هادئا ربما لأن أقدامنا وطئته في نهارات باردة وليس كالمعتاد في فصول الصيف؛ حيث تزدحم السياحة ويكتظ الالوف في طوابير هربا من لهب الحرارة إلى الأجواء الساحرة الآسيوية. الفندق الذي سكناه كان يبعد 45 كم عن المطار. ومع ذلك لا تستطيع أن تشعر بالتعب لجمال الطبيعة التي تحتضنك عن يمين وشمال.

تناولنا أطعمة خفيفة وتبادلنا الأحاديث عند الشرفة المطلة على بركة للسباحة تحفها الأشجار الباسقات المتمايلات أغصانها على وقع المطر، الطريق إلى ديمبولا طويل ومُعبَّد، لكن المروج والغابات الخضر وزخات المطر والأكشاك المتناثرة ستنسيك عناء الطريق.. وستحملك إلى عالم آخر من السكينة الداخلية.

عالم استثنائي بحت للزائر الخليجي الذي جاء من تحت اللفح واللهب والحرارة الاستثنائية أيضا. السائق كومار كانت له قناعاته؛ فالعيش تحت ظلال الأشجار والتجول في أجواء هادئة ساكنة خير من صخب المدينة وضجيجها.

ديمبولا كانت منطقة ساحرة، لكنَّ كاندي بما تحويه من مصنع للأحجار الكريمة وحديقة ضمت فيها آلاف الأنواع من الأشجار المعمرة التي تحكي تفاصيل الشيخوخة وجماليات الزمان والمكان لهي بالفعل أشد سحرا نوراليا الأكثر برودة والتي ستحتاج فيها بالفعل إلى جاكيتات وأغطية ثقيلة للبرد. ولكي تصل إليها عليك قبول التحدي؛ فالطريق إليها طويل وملتف كلفة الثعبان. أغلب الذين مروا بهذا الطريق أصابهم الغثيان والقيء والدوار، تقع في أعلى الجبل، تستطيع أن تقول إنها سلسلة جبلية عظيمة رائعة، ستستمتع بمشاهدة الشلالات الطويلة المنسابة من أعلى الهضاب، وتستطيع التوقف لاحتساء الشاي المجاني في مقهى قريب من مصنع الشاي حيث يُمكن لك زيارته.

الحياة في مصنع الشاي لافحة الحرارة، بينما الجو خارجه مختلف تماما. يوجد بالقرب من المصنع حديقة صغيرة للأطفال، انصح زائري نوراليا بعدم شرب الماء أو السوائل قبل الرحلة فهو الذي سيسبب القيء.

هناك بعض المحطات التي ستقف عندها إما لالتقاط الصور أو لاحتساء الشاي أو لتناول الطعام أو للتمتع بالمناظر الخلابة والجو البارد، وهذا قد يساعدكم للتخفيف من حدة الشعور بالأعراض السابقة. الأمر يستحق المجازفة بالفعل.

بنتوتة لها وقع خاص في القلب.. إنها الموسيقى التي لا تملها الأذن أبدا... السواحل البحرية تجذبك إلى إطلالتها الساحرة المتعددة، جوها المعتدل الرطب يمنحك إحساسا بالنشوة والحبور، في أزقتها تستطيع أن تلمح سكة الحديد الممتدة والتي تختفي بين الجنبات الخضر. منظر البيوت التي تتراقص مع وقع المطر لها صدى آخر؛ فالإحساس بالبرودة كحمامة لتوها انتفضت ونفشت ريشها، لم يكن ذلك فقط إحساسي، بل هو إحساس كل زائر لسيريلانكا.

في سيريلانكا تستطيع تسلق صخرة سيجيريا العظيمة والتي يقال عنها إنها نهاية العالم. هناك أيضا ستجد ميتم الفيلة ومزارع الابقار وحقول الفراولة. هناك فقط ستجد شعبا ودودا مضيافا، ستشاهد حبات المانجو متدلية الأغصان وملقاة فالطريق لكثرتها. الأنهار والبحيرات والماء الذي لاينضب، جنات ساحرة تخلب الألباب، شلالات تمنح المنظر رهبة وهيبة وتفردا، وحكايات عشاق يثرثرون خلف اغصان الاشجار الباسقات، هناك ستتمتع بمنظر القرود وهي تتسلق الأغصان وتتقافز فوق البيوت وعلى الأسطح وتتغنى في الشوارع محتضنة أطفالها.. السناجب تتواجد أيضا حيثما وجد الإنسان والكلاب أيضا.

سيريلانكا.. العروس المنتشية المتثائبة النائمة تحت المطر، هنيئا للراقصين حول عنفوانك يجذبهم سحرك الطاغي وجمالك الفاتن.

تعليق عبر الفيس بوك