أوبرا " لوتشيا دي لاميرمور".. الجنون بوابّة للانعتاق من الظلم والقيود الدنيوية

جسّدت ثيما ت الغيّاب والتمرّد

"أنثر دموعك المريرة فوق قبري".. رحلة كئيبة تتعدى حدود العقل والمنطق

"الأوركسترا" قوة خارقة تحرّك الأحداث الدرامية وتُفعم المشاهد بالعواطف المتقدة

اختتمت خشبة دار الأوبرا السلطانية مسقط عرض أوبرا "لوتشيا دي لاميرمور" أو "عروس لاميرمور" لملحن الأوبرا الإيطالي دومينيكو دونيزيتي.والتي قُدمت من قبل مسرح "كارلوفيليتشي" بجنوة العريق. وتعتبر تراجيدية دونيزتي واحدة من أعظم الأوبرات الإيطالية من النصف الأول للقرن التاسع عشر.

وشهدت العروض على مدى ثلاثة أيام (14 و 15 و 16 يناير 2016م) إقبالاً جماهيرياً كبيراً من عشاق فن الأوبرا، وسبق العروض محاضرات تعريفية بالأوبرا وتاريخها كجزء من مهام دائرة التعليم والتواصل المجتمعي والتي تهدف الى تعميق الفكر والتفاعل مع الاعمال المُقدمة.

وقُدمت الأوبرا باللغة الإيطاليّة مع ترجمة باللغتين العربية والإنجليزية وجاءت المشاهد مظلمة ومهيبة تعكس تراجيدية القصّة التي تنتهي بالجنون الذي يقود إلى السموّ والخلاص.

قامت بدور لوتشيا مغنية السوبرانو الرومانية "إيلينا موشوك" والتي يتميز صوتها بعمق تراجيدي وصوت سلس قادر على الوصول إلى طبقات عُليا برقّة يدعمه حضور مسرحي قوي وفهم عميق لواحد من أصعب الأدوار في الأوبرا الإيطاليّة. ورسّخت " ايلينا موشوك" سمعتها كواحدة من أكثر المغنيات تنوعاً وقدرة على التعبير في العالم. والجدير بالذكر أنّ عرض "لوتشيا " هو واحد من 3 أوبرات للمؤلف تقدمها دار الأوبرا السلطانية هذا الموسم بالإضافة إلى "إكسيرا الحب" في ( 17 و 19 و 20 فبراير2016م) و "إبنة الكتيبة" في (11 و 12 و 14 أبريل 2016م).

*د. ناصر بن حمد الطائي

تعتبر "لوتشيا" التحفة التراجيدية الرائعة التي تظهر تأثيرها على مؤلفات فيردي، والتي تحمل صبغة رومانسية حالمة من حيث تركيزها على ثيمات الغياب والفراق والجنون كقدر حتمي في حياة محاطة بالقيود والتسلط؛ فيبقى الجنون هو الخلاص الوحيد والمدخل لآفاق الحرية الأبدية.

ومازال يُنظر إلى "مشهد الجنون" الشهير على أنّه السبب الجوهري في حضور أوبرا "لوتشيا دي لاميرمور" الرومانسية لدونيزيتي وسر بقائها كإحدى أهم أعمال المؤلف. إنّ الطاقة الرهيبة التي تشعّ من العمل، وجاذبيته الدرامية الطاغية، وما يفيض به أبطاله من انفعالات وعواطف جيّاشة، وما تتميز به موسيقاه من ألحان متصاعدة وإيحاءات إيقاعية تسافر معها آذان المستمع إلى مقطوعات موسيقية سابقة من العمل، كلّها عوامل ساهمت مجتمعة في النجاح الذي حققه على خشبات المسارح العالمية. وعلى عكس أوبرات الـ"بِل كانتو" لروسيني التي تحتفي بجمال الصوت، تعكس البراعة التقنية لـ"لوتشيا" انهيارها النفسي وتدهورها العاطفي على نحو يخدم الحبكة الدرامية، ويظهر ذلك من خلال كلامها العشوائي المتقطّع والمتجرّد من العقلانية والمنطق ما يدل على أنّها فقدت عقلها وتوازنها ووقعت فريسة للهلاوس.

وعلى الرغم من انتمائها لفئة أوبرات الـ"بِل كانتو" تُصنِّف الموسيقى الدرامية لأوبرا "لوتشيا" العمل ضمن الأعمال المنتمية إلى بداية عصر الرومانسية الإيطالي والتي تتسم بزخمها الأوركسترالي، وأجوائها القاتمة، وتتمحور حول مواضيع الجنون والتسامي. إنّ ذلك أحد الأسباب الرئيسية وراء شعبية القصة التي كتبها السير والتر سكوت واستوحى منها مؤلفون أوبراليون كُثر أعمالهم مثل "عرس لاميرمور" لميشيل كارافا (باريس، 1829)، و"عروس لاميرمور" للويدجي ريشي (تريستي، 1831)، و"عروس لاميرمور" لألبيرتو مادزوكاتو (بادوا، 1834).

خلفية تاريخية

قد تكون أوبرا "لوتشيا" تأثرت إلى حد ما بأوبرا "المتزمتون"(1835) لبلليني التي ألّفها في وقت سابق من نفس العام الذي كُتبت فيه "لوتشيا"، ويزعم بعض المؤرخين أن دونيزيتي لربما ألّف "لوتشيا تحية وإجلالًا لمنافسه بلليني الذي وافته المنية قبل ثلاثة أيام من العرض الأول لـ"لوتشيا". فمن ناحية الحبكة الدرامية، تدور أحداث كل من "المتزمتون" و"لوتشيا" في الجزر البريطانية في القرن السابع عشر وكلاهما يحتوي على مشاهد جنون غير أن "لوتشيا"عمل تراجيدي بينما تنتهي "المتزمتون" بنهاية سعيدة.

إنّ "عروس لاميرمور"هي بمثابة النسخة الأسكتلندية من "جولييت" حيث تتمحور القصة حول صراع بين عائلتي "إدغاردو" و"لوتشيا" اللذين تجمعهما علاقة حب يحرّمها شقيقها الشرير وتجد "لوتشيا" نفسها مجبرة على الزواج من أجل المصلحة من رجل لا تحبه نزولًا على إرادة أسرتها. وعندما لا تتمكن "لوتشيا" من الزواج من "إدغاردو"، عدو شقيقها، وبعد أن تجد نفسها مجبرة على الزواج من غيره، تفقد صوابها وتقتل عريسها، "أرتورو"، ثم تخرج من غرفة العريسين في حالة هذيان. لقد صفّت دم عريسها بوحشية وقسوة وفقدت عقلها. تبدأ بالهذيان بشأن زواجها من محبوبها قبل أن تنهار على الأرض. يدرك شقيقها أنه السبب في مأساتها. يتم العثور في المدافن على "إدغاردو" الذي يدرك أن "لوتشيا" لقيت حتفها فيطعن نفسه حتى الموت آملًا أن يلتم شمله معها في الآخرة.

مدرسة الـ"بِل كانتو"

إلى جانب روسيني وبيلليني، يرتبط أسلوب غاييتانو دونيزيتي (1797-1848) بمفهوم الِبل كانتو ويعني الغناء الجميل، والموسيقى ضمن هذا التقليد تركز على الخطوط الغنائية العاطفية وعلى المرونة الفائقة للصوت في الطبقات العالية ("التيسيتورا" أي المساحة الصوتية الفعلية المستخدمة ضمن المساحة الصوتية الكاملة للمغني). وعادة ما يكون دور الأوركسترا منحصرًا في مساندة العرض الأكروباتي للصوت الذي يلعب الدور الأساسي البارز.

مثله مثل روسيني، عُرف دونيزيتي بسرعته في التلحين فيُشاع أنه ألّف "دون بسكوالي" (1827) في أقل من شهر و"إكسير الحب"(1832) في بضعة أسابيع. أما أوبرا "لوتشيا"، من ناحية أخرى، فاستغرق تلحينها حوالى ثلاثة أشهر! وعلى الرغم من سرعته، كان دونيزيتي كاتبًا أوبراليا استثنائيًا، وحِرفيًا ماهرًا يتميز بخطه النغمي الإبداعي وتوزيعه الأوركسترالي البسيط. ولقد شكّلت الألحان الجميلة أساس أسلوبه التلحيني، المبني على "الأرقام" مثل الأغاني الفردية والأغاني الثنائية والثلاثية والمقطوعات الجماعية مع خطب منغّمة وحوارات مغنّاة.

في أوبرات الـ"بِل كانتو"، غالبًا ما تُترجم المؤثرات الدرامية من خلال التغيّرات في مقام الصوت وليس من خلال الفروقات الدقيقة بين الأنغام المتوافقة أو تعقيبات الأوركسترا. فالنسيج الدرامي يُحاك من خلال مقاطع "الكولوراتورا" والخطوط الصوتية المزخرفة حيث يمكن زخرفة الكلمات وتمديدها وإبرازها لتعكس النص بشكل تتجلى معه حدة الانفعالات والبلاغة الدرامية. وقد واجه هذا النهج تحديات كبرى بالنظر إلى ميل دونيزيتي إلى الرومانسية الذي يدفعه إلى التمادي في استخدام ثيمات الهيام والجنون في أعماله وإضفاء عليها لحظات سحرية تبلغ فيها الإنفعالات العاطفية ذروتها.

منهج الجنون

منذ ظهور فن الأوبرا وفكرة النساء والجنون مسيطرة على الأعمال الأوبرالية فلقد كان الجمهور ينجذب لتلك اللحظات الآسرة التي تُصاب فيها إحدى بطلات العمل بانهيار عاطفي وتبهره رؤية عواقب هذا الإنهيار على جسدها الضعيف. إنها لحظات تبرز الصراع الأزلي القائم في داخلنا بين القلب والعقل، بين الروح والجسد، وبين العواطف والأفكار. خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر كان يُنظر إلى الجنون وهو يمثل الجانب العاطفي من الإنسان على أنه داء لا تُصاب به إلا النساء، مظهر من مظاهر الإفراط العاطفي والرغبة والشغف والإنهيار الوجداني. لقد تشبعت خشبات المسرح الإيطالية بالأوبرات التي تحتوي على مشاهد الجنون ومنها "القرصان" (1827) و"السائرة أثناء النوم"(1831) و"المتزمتون" (1835) لبلليني، و"آنا بولينا"(1830) و"لوتشيا" لدونيزيتي، و"نبوخذ نصر"(1842) و"ماكبث" (1847) لفيردي.

في البداية كان الرجال محصّنين ضد هذا الداء بسبب طبيعتهم العقلانية وقوتهم الذهنية، غير أنهم سرعان ما وقعوا فريسة له كما هي الحال في أوبرا "بوريس جودينوف" لموسورسكي (1868-73) و "عطيل" (1887) لفيردي و "فوزيك" (1925) لبيرغ.

تم تنميط الجنون وصورة المجنون والمصحات العقلية والسلوك العقلي للمرة الأولى على يد الفيلسوف الفرنسي والناقد الإجتماعي ميشال فوكو في القرن العشرين ففي كتبه "الجنون والحضارة" (1961)، و"ميلاد العيادة" (1963)، و"نظام الأشياء" (1966)، حاول فوكو أن يبرهن على أنّ الدولة بدأت منذ مطلع القرن الثامن عشر بإيداع المجانين في المصحات العقلية لتلقي العلاج مستمعة بذلك لصوت العقل ولما تمليه عليها المبادئ الأخلاقية ومن منطلق حاجتها إلى حماية مواطنيها. ويؤكد فوكو أنه في القرنين السابع عشر والثامن عشر، خلال "عصر العقل"، كانت ردة الفعل العقلانية تجاه المختلين عقليًا الذين كان مصيرهم حتى ذلك الوقت العيش على هامش المجتمع، فصلهم تمامًا عن المجتمع وحبسهم. ولقد اعتبرت حالة أولئك المنبوذين خطأ أخلاقيًا. وبالتركيز على علاقات القوى، يحاول فوكو إثبات أن ما كان يُقدّم على أنه علم يُعنى بالأمراض العقلية متسم بالموضوعية هو في الواقع علم تحرّكه الرغبة في السيطرة والرقابة.

وكما هي الحال في الفن، وفّر الجنون من خلال الأعمال الأوبرالية عرضًا مسرحيًا لمحبي الأوبرا خارج المصحات العقلية، الأمر الذي كان يخلق معه جوًا من البهجة ويبث روح السعادة في قلوب المتفرجين وهم مرتاحون في مقاعدهم ضمن الحدود الحميمية والآمنة للمسرح. كانت مشاهد الجنون تمنح الطبقة البورجوازية لحظات من الإثارة والترفيه في شكل "عرض للغرائب" يشاهدونه ويستمتعون به. ولهذه الغاية تعد الأوبرا ملاذًا للباحثين عن الإثارة والهاربين من مرارة الواقع، مكانًا تتحد فيه اللغات والأصوات ويتوحد فيه الشعراء والموسيقيون توحدًا تامًا ليترجموا مخاوفنا من الآخر وافتتاننا بأولئك الذين يعيشون على هامش المجتمع.

موسيقى "لوتشيا"

خلافًا للمتعارف عليه في عالم الـ"بِل كانتو" البهيج، تنذر الافتتاحية القاتمة بإصابة "لوتشيا" بالجنون وموت "إدغاردو" فيما بعد. كما تذكرنا ألحان دونيزيتي العبقرية بالافتتاحيتين الكئيبتين لعملي "ماكبث" و"ريجوليتو" لفيردي. إنّها افتتاحية قصيرة وحالمة وانفعالية، تمهّد الطريق لمشهد النافورة الدرامي الموحش.

قبل التلفّظ بكلمة واحدة، تضفي موسيقى الافتتاحية جوًا دراميًا مشؤومًا، مكفهرًا ومدلهمًا، حيث تُفتتح الأوبرا بمقطوعة موسيقية سوداوية تُعزف على سلم سي بيمول الصغير (خيار بعيد كل البعد عن خيارات ملحني الـ"بِل كانتو") وهي خافتة الصوت وبطيئة الإيقاع تصاحبها نقرات متتالية على الدف توحي بأجواء عاصفة ومرعبة يليها عزف لمارش جنائزي على الآلات النحاسية قبل أن تعزف الكلارينيت وآلات النفخ الخشبية لحنًا حزينًا ومبكيًا في محاولة للمزج بين صوت العاصفة المخيف في الخارج وروح "لوتشيا" وحالتها النفسية المضطربة. يتخلل ذلك النسق المنغّم ثلاث نغمات شديدة الصخب تنذر بوقوع الفاجعة قبل أن يواصل المارش الجنائزي مسيرته ويغرق في فترة صمت طويلة. في هذه المقدمة القصيرة يعلمنا دونيزيتي بالمأساة الموحشة والمنذرة بالسوء الموشكة على الوقوع في غابات اسكتلندا الغامضة.

ما أن تنتهي المقدمة حتى نجد أنفسنا في خضم الأحداث الدرامية إذ نكتشف أن ثروة لاميرمور في خطر ووحدها "لوتشيا" قادرة على إنقاذها إذا ما وافقت على الزواج المدبّر لها من رجل ثري. يعلم "إنريكو" شقيق "لوتشيا" بحبها لـ "إدغاردو"، عدوه اللدود، فيستشيط غضبًا ("ينتاب قلبي حنق وغضب مريران!") ويقسم بتدمير عدوه في النصف الثاني من أغنيته الثنائية.

يتم التلميح إلى جنون "لوتشيا" للمرة الأولى من قبل الصيّاد الذي يعلمنا أن "إدغاردو" أنقذ "لوتشيا" من خنزير بري عندما كانت تمشي (هائمة) مفجوعة على وفاة والدتها.

في المشهد الثاني من الفصل الأول، نلتقي بـ"لوتشيا" عقب عزف منفرد مطوّل على آلة القيثارة يوحي بالماء المتدفق من النافورة. منذ الوهلة الأولى نستشعر عدم الاستقرار النفسي لـ"لوتشيا" التي على وشك أن تقابل "إدغاردو" في جو تسوده الرهبة ويشوبه الغموض وتعززه الأنغام المتموجة للمعزوفة المنفردة على القيثارة. في أغنيتها الاستهلالية الشهيرة "خيّم الصمت"، تشير إلى فكرها المضطرب. الأغنية تُعزف على سلم ري الصغير القاتم بمصاحبة أنغام الكلارينيت وصوت أوتار الكمان وهي تُنقَر بالأصابع لإضفاء أجواء سوداوية عابسة. تكشف "لوتشيا" لخادمتها أنها في ليلة مظلمة كان يخيم عليها صمت مطبق وتحت ضوء القمر الخافت بالقرب من النافورة رأت شبح الفتاة التي قتلها لورد ريفنسوود، وفيما يختلط عليها الخيال بالواقع في شكل هلاوس بصرية، تصوّر "لوتشيا" مشهدًا حيًا لزيارة الشبح لها عندئذ يعلو صوت الموسيقى متأرجحًا بين الغنائية والكآبة بمصاحبة أنغام تآلفية صادرة من الكلارينيت.

تتوقف الموسيقى مع نهاية المقطع الثاني قبل أن تبدأ "لوتشيا" في سرد حكايتها: "كانت شفتاها تتحركان كأنها تتكلم وبدت تناديني بإشارة من يدها الفاقدة للحياة" وفيما راحت تغيب عن البصر إذ بالماء الرائقة الشفافة تغدو حمراء كالدم.

على الرغم من قوة النص وحدته تبقى الموسيقى غنائية وجميلة، فكلمة "الرائقة" مزخرفة بكم من العواطف الفائضة الهدف منها وصف تدفق الماء إضافة إلى "الجملة" الغنائية "حمراء كالدم" التي تغنيها كما لو كانت نائمة تحلم أو تمتطي صهوة خيالها، وهكذا تؤكد عذوبة الموسيقى أن مضمون النص الذي يتسم بالعنف والقسوة قد يكون خياليًا وايحائيا لا يشكل أي تهديد أو خطورة وما هو إلا من صنع خيال "لوتشيا" المجنون.

تبدأ الأحداث بالتأزم وتبلغ الحبكة الدرامية ذروتها مع هبوب عاصفة عنيفة في المشهد الأول من الفصل الثالث حيث يصرّح "إدغاردو"، وقد وجد نفسه وحيدًا، بأن العاصفة نذير بنهاية العالم.

يلي ذلك مشهد جنون "لوتشيا" الشهير وهو المشهد الثاني من الفصل الثالث الذي تندس فيه الدراما السوداء وسط احتفال بهيج، إنه تقليد أوبرالي عريق بدأ مع "دون جيوفاني" لموتسارت واستمر حتى "ريجوليتو" لفيردي نرى الشر من خلاله متخفيًا في ثياب السعادة والبهجة ففي خضم الاحتفالات السطحية للنبلاء وغبطتهم الزائفة وإيقاعاتهم غير المتقنة ما زال شبح الرعب بصدد الخروج من جحره للكشف عن نفسه. العقل يفسح الطريق للرغبة السماوية الجامحة والفضاء يفتح أبوابه أمام المطلق والمنطق يزول من الوجود، ها هي الموسيقى تسمو بنا نحو السماء متحررة من القوانين الدنيوية للشكل والبنية النغمية، وجنون "لوتشيا" يوشك على الدخول في مرحلة مشؤومة مفعمة بالصدمات وأجواء الرعب.

مشهد الجنون

في واحدة من أكثر اللحظات النفسية تأثيرًا في جميع الأوبرات الإيطالية، تظهر "لوتشيا" في ثوب العروس الأبيض فيما تُقرع أجراس الكنيسة وكأنها ملكة نازلة من عرشها لملاقاة شعبها، لطيفة، طيبة وساذجة تسير وهي نائمة، غير مدركة للرعب الذي يدور من حولها، تهيم بلا هدى، فلقد انتظرت طوال حياتها لحظة أن تتزوج من محبوبها ويلتم شملها معه. لقد بلغت رغبتها أشدها وغدت في حالة نشوة لا يمكن أن تفيق منها وإلا ضاع كل شيء.

إن أغنية "لوتشيا" ("أنثر دموعك المريرة فوق قبري") هي عبارة عن رحلة كئيبة تحلّق بنا إلى آفاق النشوة متعدية حدود العقل والمنطق لكنها أيضًا عملية تدريجية تبدأ فيها كلمة "أنثر" بداية تقليدية ومن ثم تخرج عن زمام السيطرة شيئًا فشيئًا. إنه مشهد تُقشعر له الأبدان تظهر فيه "لوتشيا" غارقة في الدماء. بالتأكيد تتعارض الموسيقى الغنائية الجميلة مع الحدث الدرامي الذي سيُكشف عنه، وهو تعارض مخيف ووحشي ومتوتر. وإذا ما أمعنا النظر في تصرفات "لوتشيا"، سنلحظ صعودها إلى عالم الخيال والهلوسة والتسامي.

تسافر الزخرفات النغمية المترفة في رحلة مرفّهة إلى قلب الجنون وتدور في فلكه، وفيما تنعم "لوتشيا" بحريتها السماوية المنشودة، تتعالى زخارفها النغمية وتزداد تعقيدًا بدون أن تبتعد عن سلم سي بيمول، النغمة المسيطرة في سلم مي بيمول الكبير. إنّه التعبير الأكثر إثارة وانطلاقًا لحرية "لوتشيا". وفي لحظة بالغة الأهمية من المشهد، نستمع إلى أصوات الكورس المؤدين لأدوار مدعوي العرس وهم يردّدون: "لم يعد من الممكن التوقف عن النحيب". مرة أخرى من الناحية الموسيقية، يحاولون بلا جدوى توجيه "لوتشيا" إلى درجة نغمية مختلفة عن سلم دو الكبير المتعارف عليه على أنه السلم المعبّر عن "النور" و"التنوير"، غير أن مرضها عُضال. إن غبطة "لوتشيا" واحتفاءها بسلم مي بيمول الكبير إنما يدل على روحها المتمردة وانتصارها وخلاصها في نهاية المطاف.

وهنا نشهد ميلاد العواطف المتقدة فهي تحتضن "إدغاردو" منغمسة في هلاوسها، تبدأ الموسيقى بالتبختر على أنغام فالس هادئة ورقيقة وهشة، أمّا النص الذي تبدأ كلماته بـ "أخيرًا أصبحت مِلكًا لك" فهو مخيف ومرعب. بعد أن غدت حرة طليقة لا تعيقها أي قيود اجتماعية أصبح الآن بإمكانها القول بثقة "إني مِلك لك وأنت مِلك لي". لم يعد للعذاب والدموع والألم أي متسع الآن وبات الإحتفال ممكنًا في الجنة حيث لم يكن ممكنًا هنا على الأرض. الموسيقى هادئة باعثة على السرور ومرحة، تعكس حالة النشوة والسعادة التي تعيشها "لوتشيا" وهي في الحقيقة "لم تشعر بأوقع لحظات السعادة الكاملة إلا في الحلم".

لا يقاطع الكورس "لوتشيا" إلا ليجعلوها تغني بصوت أعلى وأعلى، الكورس يتحلون بالمنطق ويحاولون إعادتها إلى صوابها لكنها تنبذهم متجاهلة وجودهم فلقد تسامت عن الواقع منطلقة إلى آفاق الحرية الخالدة الأبدية.

يمكننا أيضًا أن نلمس مسحة الرهبة والغرابة في موسيقى "لوتشيا" من خلال التوزيع الأوركسترالي، حيث ألّف دونيزيتي هذه المقطوعة في الأصل لتعزف بمصاحبة آلة الهارمونيكا الزجاجية وهي الة غريبة ونادرة الاستخدام، الأمر الذي يرمز إلى عقلها غير المستقر ونستمر في ملامسته طوال الأغنية. تعيد الأوركسترا عزف نسخة مغايرة من إحدى الموتيفات المأخوذة من أغنية الحب الثنائية التي اشترك في غنائها "إدغاردو" و"لوتشيا" في المشهد الثاني من الفصل الأول. تتخذ "كادنزا" الغناء والعزف على الفلوت في نهاية القسم الأول من المشهد شكل الحوار بين الإثنين موحية للجمهور بأنها تسمع أصوات في رأسها. أما تغير سرعة الإيقاع طوال المشهد فيعكس عدم استقرار إيقاعها وحالتها غير العقلانية.

ينبعث من مشهد جنون "لوتشيا" قوة تطال الحدث التالي الذي ينتحر فيه "إدغاردو" ففي مدافن عائلة ريفنسوود يكتشف "إدغاردو" موت "لوتشيا" فيطعن نفسه بخنجرعلى أمل لقاء "لوتشيا" في الجنة. وعلى نحو لافت للنظر تعزف أغنية انتحار "إدغاردو" على سلم ري الكبير وهو السلم الموازي لأغنية "لوتشيا" "خيّم الصمت" المعزوفة على سلم ري الصغير. وفي أغنية "إدغاردو" يرمز دونيزيتي إلى تسامي علاقة الحب التي جمعت بين الحبيبين واستمرارها في الحياة الآخرة من خلال انتصار أغنية "إدغاردو" المعزوفة على سلم ري الكبير على كآبة أغنية "لوتشيا" المعزوفة على سلم ري الصغير، معتمدًا في ذلك استراتيجية الأنغام التآلفية التي عُرف بها بيتهوفن في إشارة إلى انتصار الأمل على اليأس والحب على الإنتقام.

يُضفي الكورس اللمسة الدرامية على المشهد من خلال لعنهم لقسوة القدر مُعلمين "إدغاردو" بمصير "لوتشيا" وهم يذكّرونه بالحدث المؤسف: إن "لوتشيا"، الفتاة المسكينة، على فراش الموت. فالعرس دمّرها والحب سلبها عقلها ولذلك لن تعيش حتى الغروب". يدق ناقوس الموت فيَعلم "رودريغو" أن نهايته هو الآخر محتومة. يغنّي أغنيته الأخيرة فيما يشفق الكورس على حالته البائسة. تتسم افتتاحية أغنيته "يا من بسطتِ جناحيك إلى السماء" بطبيعتها الغنائية والهادئة فيما يتذكر روح "لوتشيا" وهي ترفرف بجناحيها أمام الله.

تعدّ "لوتشيا دي لا ميرمور" لدونيزيتي أوبرا مهيبة ومأساوية وتاريخية وانسانية وشهرتها ورواجها ما هما إلا شهادة على روعة الموسيقى التي ألّفها دونيزيتي كمثال أصلي على الأوبرات الرومانسية الإيطالية. نُظر إلى "لوتشيا" في أول عرض لها على خشبة المسرح على أنها تمثل ذروة عصر الرومانسية الذهبي وما يتّسم به من افتتان بمواضيع الصراع بين العائلات وطقوس الآباء والأشباح والجنون بلغ أوجّه في التحفتين الفنيتين "ماكبث" و"عطيل" لفيردي.

لقد رأينا جنون "لوتشيا" في أوبرا دونيزيتي يتطور تدريجيًا بدءًا من الهلاوس في مشهد النافورة في بداية العمل وصولًا إلى مقتل العريس على يدها في نهاية الفصل. ولقد شجّع هذا الفهم العميق لنفسية "لوتشيا" العلماء على إيعاز سبب تصوير دونيزيتي الدقيق لمرض "لوتشيا" لإصابته هو نفسه بأعراض الجنون، فمثله مثل "لوتشيا" توفي دونيزيتي وهو يعاني من حالة اختلال عقلي بسبب إصابته بداء الزهري العصبي. ولقد كشفت خطاباته عن التطور السريري لهذا المرض الذي عرّضه لحالة ذهان قوية ومؤلمة. وعلى الرغم من أن هذا المرض من الممكن علاجه باستخدام المضادات الحيوية الحديثة، أمضى دونيزيتي معظم سنواته الأخيرة في مصحات للمرضى العقليين قبل أن تأتيه المنية في النهاية نتيجة لمرض يعتبر "الأبشع بين الأمراض العقلية."

لعلّ مرض دونيزيتي العصبي شكّل مصدر الإلهام لما تم ترجمته إلى موسيقى "لوتشيا" في صورة هذيان ومعاناة بسبب مرض عقلي خطير. لكنّ "لوتشيا" هي أيضًا تجسيد قوي للإفراط العاطفي لدى النساء وحالات الجنون التي يصبن بها. فمشهد الجنون وموتها في النهاية يتجاوزان جمال الايقاع الأكروباتي السريع في الغناء الموروث من تقليد الـ "بِل كانتو". وانهيارها ما هو إلا علامة على انتصارها على ما تعانيه من قمع وظلم في مجتمع ذكوري تسيطر عليه الرجال. "لوتشيا" تحلّق في سماء النشوة المطلقة ومن الناحية الرومانسية تقف شاهدة على إمكانية تفوّق العاطفة على العقل. لم يكن من الممكن لـ"لوتشيا" تحقيق ذلك إلا ضمن إطار الجنون، ومن خلال التمرّد في عقلها الباطن على جميع أشكال الظلم تجاه المطلق وتحقيقها لرغباتها بالتسامي فوق القيود الدنيوية مؤكدة على أن الحب لا يموت أبدًا.

*مستشار مجلس الإدارة للتعليم والتواصل المجتمعي.

تعليق عبر الفيس بوك