"ناب الكلب"

أمل السعيديَّة

فيلم ناب الكلب (Keynodontas) لمخرجه اليوناني يارجوس لانتيموس، وهو من إنتاج عام 2009.

هذا الفيلم يُدلِّل على الأنظمة الشمولية التي تقوم بالسيطرة على جميع مدخلات العلم والثقافة؛ حيث تفرض هذه الأنظمة سلسلة من الإجراءات الاحترازية التي تُقدِّمها تحت غطاء الحفاظ على المصلحة العامة. في الوقت الذي تُحافظ فيه في حقيقة الأمر على استمرار فرضها للسلطة، وعلى امتلاك الدولة بمن فيها. وأول ما تقوم هذه الأنظمة بالسيطرة عليه هو "اللغة" على اعتبار أنها نطفة التفكير الأولى؛ فنحن جميعاً نفكر باللغة، وإن اصطلحنا على أنَّ كلمة "باب" تعني الخروج، ففي كل مرة نفكر فيها في الباب سيخطر على بالنا أننا نخرج. هكذا الحال مع جميع الكلمات التي يتم تداولها في نظام شمولي، والشمولية هنا تعني الإحكام التام على كل شيء، أي أنْ تشمل هذه الدولة كل شيء. ومن ضمن المفاهيم التي تقوم هذه الأنظمة إما ببسطها أو تقويضها: الدين، الحب، الفن، الجمال، الإنسانية، السلام، الاستقرار، التسامح...وغيرها من الكلمات؛ حتى إنَّ التعامل مع هذه المفاهيم داخل المجتمعات الشمولية لا يتجاوز ما سنحت به سلطة الأنظمة فيها، ويُعدُّ الخروجَ عنها شيئاً يشبه الشطط، أو الخبل والجنون، بل إنَّ محاولة الكشف عن معنى ذاتي يخص الفرد وحده داخلها يعني تجاوزاً قانونيًّا قد يؤدي إلى القتل أو النفي في أحيان كثيرة كما حصل مع كثير من ثوار العالم ومبدعيه.

ويحكي الفيلم قصة أسرة مكونة من أب وأم وأخ وأختين، يعيشون في مزرعة بعيدة عن الناس. يقوم الأب -صاحب السلطة، وهو هنا يمثل دور المؤسسة الذكورية- بالتحكم بكل ما يحصل داخل هذه المزرعة. حتى إنه يقرر أنْ لا يُسمِّي أبناءه، وإنما يُدلل غياب التسمية على غياب الوجود؛ فعندما تغيب أسماؤنا ولا نكون إلا مجرد كائنات لا تُسمَّى أيْ لا يُمكن الإشارة إليها أو مناداتها، لا يعني هذا إلا انعدام الحضور. ونرى الأم تقوم بتعليم أبنائها عبر تسجيل شريط صوتي معاني الكلمات فيصير معنى كلمة "نزهة" البحر. تماماً كما يحصل في كثير من المجتمعات اليوم؛ فكلمة حب مثلاً ترمز إلى الانحراف والشبق الجنسي وما إلى ذلك؛ لأن السلطة أرادت هذا. نُشاهد عبر هذا الفيلم عملية صناعة التغييب وأدواتها عبر نظرة فاحصة وقريبة جدًّا من دوافع الصانع وخطوات ابتكاره لأدوات التغييب والاقصاء والانغلاق باستخدام الأب والأم لمسوغات كثيراً ما نسمعها كالخوف على الأبناء. ليس هذا فحسب بل إننا نشاهد عبر هذا الفيلم صناعة العدو بهدف إلهاء الشعوب عن النظر إلى مشاكلها الحقيقية والمطالبة بحلها. واحد من المشاهد الأثيرة في هذا الفيلم هو سؤال الابن الشاب لأمه عن معنى كلمة "زومبي". فتجيبه: إنها زهرة صفراء. وعندما يخرج للحديقة ويشاهد زهوراً صفراء متناثرة هنا وهناك يصرخ: أمي أمي وجدت زومبيات كثيرة.

لكن واحدة من الأختين تشاهد فيلما مصوراً لنساء يرقصن لأول مرة بعد أن تمكنت من إقناع عاملة يجلبها الاب لتمضية وقت مع ابنه، بأن تعطيها إياه لقاء تقديم خدمة لها. ومن هنا تبدأ هذه الفتاة بصناعة وعي جديد آخر. فتختار لها اسماً ونشاهدها ترقص بشغف كبير في حفلة مسائية للعائلة. نبدأ حينها بمشاهدة إنسان ثائر، متمرد يريد أن يصبح حرا، وهذه طريقته في التعبير عن رغبته هذه. تسأل هذه الشابة أباها ذات يوم، متى نستطيع أن نخرج من المزرعة. فيجيبها الأب عندما يسقط نابك. فتقوم هذه الشابة في مشهد ملحمي رائع بكسر نابها عن قصد، وعلى الرغم من الألم الذي يُصاحب كسر السن ونزول الدم، إلا أنَّنا نراها سعيدة وهي تنترع حريتها. أي أنَّ صناع الفيلم يدللون هنا على الألم الذي يُصاحب عملية انتزاع الحرية عندما ينتصر الإنسان لفردانيته وخياراته بعد أن يسمح لمدخلات أخرى بمحاكمة وعيه غير ملتزم بما تمنحه له السلطة. تماماً كما يحدث عندما نقرأ أو نشاهد أفلاماً، أي أن نطل على العالم بالسؤال، بالاستفهام عما نعيشه وعما هو معطى لنا.

تعليق عبر الفيس بوك