أنا الشرطي وأنت اللصُّ.. مفهومٌ عميق

راشد الجنيبي

عندما كُنَّا صغاراً، في جنة البراءة، ورونق الطفولة، حين بشاشة الصبا وجَذل الصِّغَر، وفرح البسَاطة ومرَحُ العُمُر، لَعبتُ يوماً مع أخي الأكبر مني كأي لعبةٍ في ذاك الزمان لخلقِ السعادة واستجوابها، حتى تمادى فينا الحماس إلى أن وصل للجد، لُعبة الشرطي والحرامي، يومها كنتُ أنا الشرطي وهو طبعاً اللص، لكن التمادي هُنَا بدأ حينما قلتُ: عندما أكبر سأصبح شرطيًّا وقد حجزتُ هذا الدور من الآن، ولما حاول أخي استمالة هذه الوظيفة أو الدور الخيالي رفضت مُحتجاً بأني سبقته، فرضي أن يكون اللص، انتهت اللعبة لكن ظللنا لأيامٍ مؤمنين: أنا الشرطي وهو اللص! حتى وصل الخبر إلى القاضي الكبير، وصل هذا الخبر لأبي فأنَّبَنا قَلِقاً وموضحاً أن كِلانا شُرطة أو نكف عن اللعب!

لُعبة الشرطي واللص تبدأُ بهروب اللص أو اللصوص مختبئين في أماكن شتى في المنزل أو الحديقة أو أي مكان يَكُونُ مرتعاً ومبتغى لهم، معلنين بطفولتهم المرح وثقتهم بالشرطي أن يغمض عينه حتى يختبئون، وما إنْ ينتهي الشرطي من عده حتى يبدأ بدورياتٍ للبحث عنهم وإلقاء القبض عليهم، هكذا فقط بكل بساطة لطافةٍ وبراءة، لكن وبِبراءة قَد تتحول هذه اللعبة لوجهٍ آخر.

عميقاً بين الأفكار تُسمَّى نظرية الشرطي والحرامي، أو الصالح والطالح، تتكرر بين المجتمعات محددين بها مصير كل إنسان، اختلفت مسمياتها كالضائع (الصايع) والمطيع، أو القديس ومُلازِم الذُنوب، أو الشاطر والفاشل، أو المهذب والمشاغب الشقي، كُلها أضداد انبثقت من نظرية الشرطي والحرامي لشيطنةِ جِهة وجعل الأُخرى ملاكاً، وعادةً ما تُزرَعُ في الأطفال ليُرسَمَ لهُم وهم يُجبَروا أسفاً على أن ينصاعوا إليه، فيظل طرَفٌ سيئاً مهما فعل، والآخر يُبلى بحُرمةِ تجاوز أي حدٍّ بسيط وبِمُراعاة الآخرين كي لا يكون خارج بوتقة الخيرين، كونه الشاطر الخيِر المطيع المهذب الممدوح المحمود المُبارك النقي الخيِرُ المُنير الرائع والأفضل فخطأه كألفٍ مِمَا يعدون! والمسكين الحرامي أو مَن رُسِمَ لَهُ ذلك قسراً وجهلاً فهو كُلهُ خطأٌ وذنب ومفسدة! ثُم يُبنى على ذَلِك جيلٌ مكلومٌ بهذه النظرية.

ومن كوارث العصر ومدمرات الإنسان العنف اللفظي، وكون متلازمة الشرطي والحرامي ستُصاحب الأطفال أولاً، فالطفل اللص غالباً ما يكون ضحية العنف اللفظي، وقد تبدأ نكبته مع الحياة حينها، فإن لُقن الفتى وأُسكبَت عليه هذه العِبارات الموحية بالإخفاق والخذلان تَكُونُ طبعاً النتائج وخيمة، فكلمة فاشل التي تطلقها عليه أو "أقرانك (الشرطة) متفوقون وأفضل عنك" تُدمي جروحه وتُبهِتُ جنةَ براءته وتشوه طفولته، فقُوة الكلمة وسحرها وتأثيرها لها دورٌ في ذلك، وتُثبت الدراسات التربوية أن أي اعتماد للكلمات السلبية النابية كوسيلةٍ لدفع الطفل للانصياع إلى أمرٍ ما قد يؤدي إلى نتائج عكسية، فيندفع قهراً للتمرد ويصبح فعلاً لصاً أو في الجانب المُظلم من النظرية.

نعم قد تكون مجرد لُعبة لكن إذا كَبُرَت اللعبة وصارت في قصص الشعوب وبين المجتمعات والأعراق، وإذا صُنفَ لنا أن فئة أو جماعة أو قوماً من البشر هم اللصوص في هذه النظرية ونحن الشرطة الملائكة، أو نحن الأكرمون، فنتائجها على المدى البعيد وخيمة، فبمجرد الاختلاف يتم إقصاء وإلغاء الآخر لأنه في النظرية هو اللص، وتتم ملاحقة مباغتة الطرف الآخر لأنه مُختلف وكوننا في اللعبة الشُرطة، ويُخلَقُ بذلك عدم تقَبل الاختلاف وأن أي اختلاف هو عدو، وليس لكل اختلافٍ دور!

فالشرطي واللص لَعِبناها ببراءتنا أطفالاً، لكن قد تُحدِثُ أوهاماً بين العقول لتُميزَ كذباً بين سراب الفئة الملائكية والفئة السوداوية، وكأن البشرية محتجزةٌ ومَسطحة فقط على هذا المفهوم، الأصوات الصارخة قائِلةً: ذاك شُرطي والآخر لص. تبدأُ بدايةً بين الأقران حتى تنتهي بمَلحمةٍ بائسة بين الشعوب، نعم الآن نُدرِكُ ذاك القول: "كِلانا شرطة أو نكف عن اللعب"!

تعليق عبر الفيس بوك