بتسوانا: قبائل الألماس أذكى من قبائل البترول

د. سيف المعمري

بدأ اهتمامي بدولة بتسوانا أثناء دراستي للدكتوراه في جامعة جلاسجو بإسكتلندا خلال الفترة من (2005-2009)؛ حيث قادني الموضوع الذي أبحث فيه -وهو عن المواطنة وتصورات المعلمين عنها- إلى العديد من الدراسات؛ كان من ضمنها دراسة لباحثة من دولة بتسوانا، وحين قرأت الخلفية الاقتصادية الاجتماعية الثقافية التي ضمَّنتها عن هذه الدولة الإفريقية، ذهلت بوجود دولة قادرة على أن تكون استثناء في تحقيق النمو الاقتصادي والديمقراطي في القارة الإفريقية، ولم أفكر حينها في أن أكتب عنها، لكن في ظل هذه الأزمة التنموية التي تمر بها دول الخليج أجد من الضروري الكتابة عنها، سيما في ظل التشابه الكبير بينها وبين دول الخليج؛ سواءً من حيث طبيعة المجتمع، والموارد، والنمط الثقافي السائد، وكذلك الفترة التي بدأت فيها التنمية، مما يقودني إلى طرح سؤال جوهري هو: هل القبائل البتسوانية أذكى من القبائل الخليجية في بناء الدولة والتنمية؟

وحتى نستطيع الإجابة عن هذا السؤال، لابد أن نعرف هذه الدولة، من خلال بعض الحقائق عنها؛ فبتسوانا تقع في جنوب الصحراء الكبرى كانت مستعمرة بريطانية حتى استقلت في العام 1966م، أي أنها بدأت في نفس الفترة التي بدأت فيها بعض الدول الخليجية التنمية الحديثة، وهي تعاني من نفس الظروف الجغرافية التي تعاني منها الدول الخليجية إن لم يكن وضعها أسوء فـ"70%" من مساحتها تغطيها صحراء كالهاري، وعدد سكانها لا يتعدى مليونين، هذه الدولة كانت من أشد البلدان فقراً ليس في إفريقيا فقط إنما في العالم، حيث كان دخل الفرد لا يتعدى الـ70 دولارًا عند الاستقلال في منتصف الستينيات، وكان السكان مثل سكان منطقة الخليج يعملون بالرعي والزراعة التي تعتمد على الأمطار، أما الشباب فكانوا يذهبون للعمل خارج البلد في مناجم ومزارع ومصانع جنوب إفريقيا بحثا عن حياة أفضل، فدولتهم دفعتهم للعمل في مهن كان يترفع الفرد الجنوب أفريقي عن العمل فيها، ولم يتجاوز عدد خريجي الجامعات عن الاستقلال 22 فرداً، أما طلاب المدارس فلم يتعدَّ عددهم 100 طالب، في حين لم يتعدَّ عدد الطرق المعبدة 5 كيلو مترات، وبالتالي كانت هذه الدولة خارج دائرة الحياة الحديثة حتى منتصف الستينيات، دولة طاردة وقاهرة وقاتلة للحلم والأمل بأي شكل من أشكال الحياة؛ لذا ظنوا أنَّ هذا هو قدرهم المحتوم، وأنْ لا أمل يُمكن أن يتشبثوا به؛ فقطرات المطر حين تتجمع يمكن أن تساعد على زراعة نبتة تقاوم المناخ الصحراوي، إلا أنها لا يمكن أن تشكل جدولا يقود إلى بناء تنمية حقيقية. وربما فقرها من الموارد الطبيعية هو الذي دفع بريطانيا للتخلي عنها وتركتها لمصيرها البائس، وهذا هو النهج الاستعماري ولن يتغير، نحن الذين لا نزال ننظر إليه تلك النظرة البريئة التي كلفتنا الكثير، لكن لو عرف الاستعمار أن هذه الدولة سيكتشف فيها مورد طبيعي وهو "الألماس" لما خرج منها، هذا المورد كان أشبه "باكتشاف البترول في دول الخليج، والسؤال الآن: هل ظلت بتسوانا على فقرها المدقع، أم أنها نجحت في بناء دولة إنمائية خلال العقود خمسة العقود الماضية بعد الاستقلال؟".

لا شكَّ أن ما جرى في هذه الدولة يعتبر قصة نجاح لجميع الدول التي تسأل نفسها: هل يُمكن أن نبني دولة إنمائية مستدامة في مجتمع، أم أنها ستمضي وفق النموذج الخليجي في التنمية الذي كرس الاعتماد على النفط، ولم ينجح في بناء الآليات التي تكفل وجود تنمية تقوم على بناء الفرد لا على بناء المكان؟! نعم نجحت بتسوانا نجاحاً لم يكن أحد يتوقعه وأطلق عليها "نمر إفريقيا" نتيجة قدرتها على بناء دولة تتمتع بتنمية مستدامة من أجل المواطن؛ حيث تشير بيانات البنك الدولي والأمم المتحدة إلى أنَّ معدلات النمو في هذه الدولة تراوحت بين 7% إلى 9%، بينما كانت معدلات النمو تتراوح بين 2.5% و3% في بقية دول القارة الإفريقية، وتضاعف دخل الفرد ستة أضعاف دخل الفرد في إفريقيا و60% من دخل الفرد في العالم مع عدم وجود ديون خارجية، ووجود احتياطيات أجنبية تأمن البلد لفترة طويلة، هل تحقق هذا لأن هذه الدولة هي ثالث أكبر دولة منتجة للماس في العالم؟!

الإجابة كما يرى المحللون هي لا؛ فنجاح بتسوانا لم يكن بسبب الألماس إنما يعود إلى فلسفة بناء الدولة والتنمية والالتزام بها خلال كل هذه العقود، ولقد قامت هذه الفلسفة على أربعة مبادئ رئيسية؛ هي: الديمقراطية بدلاً من حكم رؤساء القبائل، والتنمية بدلاً من الاعتماد المفرط على الرعي والزراعة، والوحدة بدلاً من التشتت القبلي، والاعتماد على الذات بدلاً من التبعية، وقد عكفت هذه الدولة على تنفيذ هذه المبادئ بدقة متناهية هي وضع دستور وأجريت أولى انتخابات في العام 1965م، واستمرت الديمقراطية تتعزز بكل متطلباتها من صحف مستقلة ومؤسسات مجتمع مدني وأحزاب؛ ولم توضع تقليدية المجتمع، وقلة عدد المتعلمين به، أو مستوى نضجه كعقبات لعدم إرساء بنية ديمقراطية حيث كان الهدف بناء مؤسسات تنهض بالمواطنين ليكونوا رأس مال للتنمية، والنتيجة هي أن هذه الدولة -حسب تقارير منظمة الشفافية العالمية- لا تعتبر فقط أقل الدول الأفريقية فساداً، بل وجد أنها أقل فساداً من دول متقدمة جدا مثل اليابان وإسبانيا وبلجيكا وإيطاليا.

ومن العوامل التي ركَّزت عليها بتسوانا أنها لم تجعل "الألماس" وإيراداته سببا لبناء جهاز إداري يستوعب أي أحد بغض النظر عن الحاجة إليه، أو قدرته على المساهمة في الإنتاج وهو ما قامت به الدول الخليجية؛ بل إنها كانت تنظر إلى الجهاز الإداري بأهمية كبرى فهو القادر على تحقيق المبادئ التي وضعتها لتوجيه التنمية؛ فركزت على توظيف الكفاءات ولم تتسرَّع في عملية توطين الوظائف على حساب الكفاءة، وكان الإصرار دائما على تنظيف الجهاز الإداري من أي مظاهر فساد تعيق الدولة وتؤثر على تنميتها. علاوة على ذلك كان لافتا وجود وعي وطني قوي في هذا المجتمع التقليدي، وفي هذه الدولة الحديثة سواء من قبل المواطنين في القاعدة أو من قبل النخب الاجتماعية المتمثلة في شيوخ القبائل؛ فالفئة الأولى كانت ترى أن "شيوخ القبائل" لا يُعبِّرون إلا عن إرادتهم؛ وبالتالي لا يوجد قرار لشيخ القبيلة إلا ما تُجمع عليه القبيلة، إنَّه تطبيقٌ لفهوم "الشورى" الحقيقي الذي لا يزال مستمرًا حتى اليوم في هذه الدولة، ويُطلق عليه اسم "الكغوتلا"، ويتجسَّد وعي النخبة في دعمهم للحكومة وتوجهاتها بدلاً من استغلالهم للحكومة للحصول على أكبر عدد من المكاسب، وخير مثال يتكلَّم عنه البتسوانيين هو ما قام به الرئيس "سيريتس كاما" الذي نقل ملكية ثروة "الألماس" الذي يقع معظمه في أراضي قبيلته إلى الحكومة المركزية.

وليْتَ الأمرُ اقتصر على ذلك فقط؛ فهناك الكثير من الأسرار عن كيفية تحقيق التنمية الحقيقة في هذه الدولة، وهي أيضا يمكن اعتبار غيابها سببا للإخفاق في دول أخرى، ومن هذه النقاط المثيرة جدًّا هو القيم والحرص على المال العام أو عبارة أخرى اتصافهم بالرشد والعقلانية في التعامل مع المال العام، فكما يذكر ظل رئيس الدولة يُسافر لعدة سنوات على الدرجة الأولى لحضور الاجتماعات العالمية مع وجود سائق خاص واحد له، وظلَّ الوزراء والممثلون الرسميون خلال السبعينيات والثمانينيات يستقلون سيارات شحن في العاصمة، بل إنَّه في إحدى المرَّات علم وزير الزراعة أنَّ وفد وزارته الذي ذهب لحضور مؤتمر في أوروبا يسكن في فندق خمس نجوم؛ فطلب منهم فورا الانتقال إلى فندق أقل كلفة، من درس كبير وعميق يُقدِّمه هذا المجتمع الرعوي لنا في كيفية بناء مجتمع تنموي قابل للاستمرار بدون أزمات، يقدِّم درسًا لمجتمع إسلامي ما انفك يتحدث في الصباح والمساء عن الصدق والأمانة والحرص على الموارد، وكل شيء يهدر من قبل الجميع حتى في مكان العبادة الذي يستهلك كهرباء أضعافَ ما يحتاجه المكان.

إذن الخلاصة هي أن بتسوانا كانت دولة فقيرة جدًّا، وتقليدية، وسكانها يعملون خارجها، ولم تكن بها مدارس أو جامعات، أو طرق معبدة أو كهرباء، أو أية أنشطة اقتصادية، ولكنها خلال خمسة عقود نجحت في تأسيس مجتمع ديمقراطية، ودولة مؤسسات، ونجحت في تنويع الاقتصاد، ووضعت تنمية مستدامة غير خاضعة لتقلبات أسعار الماس، في الوقت الذي كانت ظروف دول الخليج مشابهة في كل شيء، إلا أنها لم تحقق ما حققته هذه الدولة، هل يمكن أن نتواضع قليلاً ونتعلم من الدروس التي تقدمها هذه الدولة؟!

تعليق عبر الفيس بوك