نصف القمر

عهود الأشخرية

مدخل:

"أنا لست خائفا من الموت، لأنّي عندما أكون هنا هو لا يكون هنا.. وعندما يكون هو هنا أنا لا أكون هنا، المكسب أو الخسارة ليسوا أكثر أهميّة من الموت".

كيركيجارد

على سبيل الحياة عدت لمتابعة فيلم جديد للمخرج الكردي البديع (بهمن قوبادي) والذي قد شاهدت له سابقًا فيلم (زمن الخيول السكرانة) وهو أيضا ذات المخرج الذي أخرج فيلمي (السلاحف يمكن أن تطير) و (معزولون في العراق) والتي لاقت نجاحًا كبيرا.

أما عن فيلم (نصف القمر) أو "قمر 14" -ليلة اكتمال القمر- مثلما ورد في الفيلم إشارة إلى ذلك، فإنّه يحكي عن موسيقار كبير في السن ومعروف يُدعي (مامو) يبدأ ظهوره في الفيلم حين يتصل بأحد أعضاء فرقته الموسيقية وهو ابنه "كاكو" ليخبره أنّه حصل على تصريح ليرحلوا من كردستان إيران إلى كردستان العراق لإقامة حفلة موسيقية هناك احتفالا بعودة الحرية، فهنا كان على (كاكو) أن يتدبر أمر النقل حين قرر أن يستعين بحافلة جاره مقابل وعد بأنّ هذه الحافلة وصاحبها سيصيران مشهورين بعد أن تنتهي تلك الحفلة الموسيقية.

فيبدأ الموسيقار الكبير مامو بتجميع أعضاء فرقته الموسيقية مع المغنية الوحيدة (هشو)؛ لكن الصعوبة التي ستواجه الفرقة هنا هي وجود هشو حيث إنّه من غير المسموح للمرأة بالغناء في إيران لذلك فإنّ تهربيها سيكون مغامرة صعبة وخطيرة على الجميع! فيعملون على إخفائها في مكان ما بالحافلة حين يصلوا إلى نقطة تفتيش أو مكان مشبوه. ينجحون بداية في هذا الأمر ثمّ للأسف يتم القبض على (هشو) من قبل الشرطة، ليس هذا فحسب بل يحطموا كل الآلات الموسيقية.

يتكئ (بهمن قوبادي) على مقطوعة موزارت "قداس جنائزي" في هذا الفيلم، وعلى الغناء الكردي في مشاهد كثيرة، وعلى المشاهد الشاعرية الرهيفة مثل مشهد النساء في القرية الواقعة قرب الحدود التركية العراقية الإيرانية، حيث لجأت 1334 مغنية هربًا من الظلم والتسلط الذكوري في المجتمع الإيراني آنذاك، حيث إنّ الغناء كان ممنوعًا عن النساء وكانت تضطهد أيضًا عن طريق منعها من أشياء كثيرة، وليس مهما إن كان هذا الرقم واقعيًا أو خياليا لأنّ الهدف من هذا المشهد إظهار كميّة المعاناة التي يمكن أن تعانيها امرأة في مجتمع ذكوري بحت.

كان مشهد النساء في هذه القرية وهن يندمجن مع الموسيقى مرهفا إلى حد أن يجعلك تعيد هذا المشهد كثيرًا وتذهب بعيدًا إلى ما خلف الصور!

حين تمّ تحطيم الآلات الموسيقية وقُبِض على (هشو)؛ قررت الفرقة أن تتجه إلى صديق للموسيقى ليأخذوا منه آلات موسيقية، فغيروا اتجاه الرحلة إليه ولكن المفاجأة كانت أنّهم حين وصلوا وجودوا سكَّان القرية يدفنون ذلك الصديق حين حدث أمر خيالي فجأة حين انطلق صوت ملائكي بأغنية كردية في المقبرة فشعر الجميع أنّ الميت تحرك خصوصا صديقه (مامو) الذي أصرّ على الطبيب أن يفحصه من جديد..

إنّ كمية الشاعرية والرقة في هذا المشهد مقدّسة حين يتفاعل الموت مع صوت الغناء القادم من تلة قريبة فيخاف الموت ويترك ضحيته لبعض الوقت تعود للحياة بالأغنية.

الملاك صاحبة الصوت ستهطل على الحافلة من الأعلى كإشارة في أن الغناء يستحق الفضاء الرحب - لا أقفاص السجن والاضطهاد- فتظهر امرأة جميلة ذات صوت ملائكي لتساعد الفرقة في الوصول إلى مرادها بخطة ذكيّة وتعد (مامو) أنّها ستغني في فرقته بديلا عن (هشو) التي فقدتها الفرقة فتمضي الفرقة قُدما إلى كردستان العراق إلا أنّ الموت يكون قريبا من هناك أيضًا.. قريب جدا من الموسيقار (مامو) الذي سعى كثيرًا للوصول إلى تلك الحفلة، فيهرب من شدة البرد إلى صندوق في الطريق وهو لا يعلم أنّ الموت ينتظره هناك.

هذا الفيلم يحكي تفاصيل دقيقة وبدهشة خالصة عن علاقة الإنسان مع رحلة الحياة ومباغتة الموت والموسيقى والمرأة، عن قوة المرأة التي لا زالت تواجه الحياة بموسيقاها، عن الفرص وهي تتدفق كنهر في الطرق التي نسلكها.

وأخيرًا:

"قل للعابر أن يعود

نسي هنا ظله،

قل له إن الحدائق والقمر والشمس

والأحياء والموتى

في ظله.."

وديع سعادة

Ohood-Alashkhari@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك