أصلحوا تعليمكم .. تصلح أمّتكم

سلطان بن خميس الخروصي

يُشكل التعليم ركيزة أساسية في منظومة البنية التحتية للدولة الحديثة، إلا أنَّ الرؤية السياسية تجاهه تشكل أحد أهم العوامل المصيرية في نوعية صناعة الأجيال؛ فإما أن تفرخ مؤسسات التعليم المختلفة بمستوياته العامة أو التعليم العالي من ينتهج سياسات وتوجهات ثلة من المسؤولين النافذين في الدولة وفق مبدأ "خُذِ الجمل بما حمل" أو يسلك المتعلمون مسارات علمية قوامها المعايير والأسس العلمية العالمية، ومن هذا المنطلق سعت كثير من دول العالم إلى تعزيز قاعدة التعليم وجعله في خانة الأولوية القصوى المُدرجة في سياساتها المالية والتنموية، واعتباره أحد أهم مكونات الاستثمار القومي لها.

إلا أنه ومع طي آخر ليلة من العام 2015م يلاحظ وجود مؤشرات مُخيفة أفصحت عنها منظمات دولية مستقلة وأخرى رسمية بحثية عالمية موثوقة أن الإنجاز التعليمي في دول العالم شهد عملية شد وجذب لدى بعض الدول وأخرى شهدت تصحّراً وانهيارا مفجعا، فقد نشرت مجلة "أرقام" السعودية خبرا تطرق إلى نتائج تقرير المؤسسة الأمريكية غير الربحية "Social Progress Imperative" لأكثر الدول التي نجحت في تقديم أكبر فرصة تعليمية لمواطنيها في عام 2015م وفق معايير مهمة تطرقت إلى: نسبة المتعلمين البالغين، ونسبة التسجيل في المرحلتين الابتدائية والثانوية، وعدد السنوات التي تقضيها المرأة في المراحل التعليمية المختلفة، وقد أظهرت النتائج أن دول شرق آسيا مثل: كوريا، واليابان، وسنغافورة، وهونج كونج قد حققت إنجازاً تعليمياً مرموقاً على المستوى العالمي في إتاحة أكبر فرصة لتعليم مواطنيها، بينما كان التراجع من نصيب الدول الإسكندنافية والتي كانت متربعة على عرش التعليم في العام 2012م وعلى رأسها (فلندا) حيث تقهقر دورها من الأول عالميا إلى المرتبة الخامسة، كما أظهر التقرير نتيجة تعد "مُستغربة" بأن تتقدم روسيا في التنافس العالمي لسبعة مراتب وتحل في المرتبة الثالثة عشرة أمام ما تشهده من تشديد كبير على المناهج والتعليم بشكل عام نتيجة الأزمات السياسية الخارجيّة التي تنتهجها وتشجيعها العارم للشباب الروسي بالانخراط في المؤسسة العسكرية، كما وأظهر التقرير الذي تضمن 40 دولة أنّ البرازيل جاءت في المرتبة 38 والمكسيك في المرتبة 39 وتتذيل إندونيسيا القائمة بالمرتبة الأربعين، لتخلوا القائمة من أي دولة عربية!.

ومن حيث ترتيب أفضل عشر دول من حيث نسبة التعليم بين مواطنيها على مستوى العالم فقد جاءت كالتالي: كوريا الجنوبية، اليابان، سنغافورة، هونج كونج، فلندا، المملكة المتحدة، كندا، هولندا، إيرلندا، بولندا، لتخلو القائمة من أي دولة عربية من جديد!

وفي تقرير آخر نشرته مجلة "اليوم" حول "مؤشر جودة التعليم العالمي وموقعنا التعليمي بين دول العالم" فقد أظهر التقرير الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي في "دافوس" لعام (2015- 2016م) عن تدني ترتيب أغلب الدول العربية في مجال جودة التعليم، وقد تمّ تقييم جودة التعليم في الدول المتضمنة في التقرير وفق معايير علمية أهمها: نوعية المؤسسات، ونسبة الابتكار، وطبيعة بيئة الاقتصاد، والصحة والتعليم الأساسي، والتعليم الجامعي والتدريب، وكفاءة أسواق السلع، وكفاءة سوق العمل، وتطوير سوق المال، والجاهزية التكنولوجية، وحجم السوق، وتطور الأعمال والابتكار"، وقد أظهرت النتائج أن سنغافورة وضمن 140 دولة جاءت في المرتبة الأولى، تلتها سويسرا، ثم فلندا، وجاءت قطر في المرتبة الرابعة وهي بذلك تحتل المركز الأول على المستوى العربي، ثم الإمارات عاشرا، ولبنان في المرتبة 25، والبحرين في المرتبة 33، والأردن في المرتبة 45، والسعودية في المرتبة 54، ومصر في المرتبة قبل الأخيرة 139.

وبالنظر إلى التنافسية في جودة التعليم للدول العربية عالميا نظير الإنفاق العام المُضمَّن في الميزانيات السنوية فإن ذلك يبعث في النفس جُملة من التساؤلات والبحث عن موضع الخلل هل هو في كمية الإنفاق أم نوعيته؟، فلو عرجنا قليلا لبعض ميزانيات الدول العربية المرصودة للتعليم نجدها عالية بل تتجاوز المتعارف عليه دوليا (5%) من الناتج القومي، ففي كتاب "أضواء على واقع التعليم في الدول العربية" يُظهِرُ الكتاب ميزانيات بعض الدول العربية ونسبة الإنفاق على التعليم للعام 2014م، فالسعودية رصدت 54 مليار دولار أي ما نسبته 25% من الميزانية العامة للدولة، ومصر 9 مليار دولار ما نسبته 8.5%، والعراق 11 مليار دولار ما نسبته 10%، والإمارات 2.7 مليار دولار ما نسبته 9%، والكويت 4 مليار دولار ما نسبته 8.5%، وقطر 6 مليار دولار ما نسبته 11%، والأردن مليار دولار ما نسبته 10%، وتونس 5 مليار دولار ما نسبته 7.5%، والمغرب 5 مليار دولار ما نسبته 17.2%، فنتساءل أمام كل هذا الإنفاق السخي على التعليم لماذا لا يُنافس العرب دول العالم في جودة التعليم ومخرجاته واستثمار المعرفة؟!.

اليوم يعيش الخليجيون خاصة والعرب عموما حقبة رمادية في تاريخهم الحديث، لكن هل تساءلنا لماذا وصل بنا الحال أن تُعدم كل براءات الإنتاج والإبداع والابتكار ونتفنن في افتعال الفتن وطمس الآخر باسم المذهب أو الطائفة أو العرق؟ لماذا لم يستطع تعليمنا الخليجي والعربي المُرصَّع بالمليارات صنع جيل مُتضلِّع بالإنتاجية والبحث العلمي ومُزاحمة العالم المتحضر في المجالات العلمية التي تعتبر اليوم هي البنية التحتية الفعلية للاقتصاد الوطني من خلال ما يُعرف باقتصاد المعرفة؟ لماذا لا نزال نرزح تحت فيلة (أبرهة) ببعض الإرث التاريخي المخضّب بالدم والانتقام والإقصاء ونحن ندخل العام 2016م؟! لماذا لا يتنافس العرب فيما بينهم نحو تجويد تعليمهم لترقى عقول أجيالهم؛ فلا ينخرطون مع شواذ الفكر، أو تُجَّارِ الدِّين، أو سماسرة الطائفية والحروب؟ هل يعي المسؤول الخليجي أن بناء منظومة تعليمية ناجحة وفق معايير وطنية وعالمية يُمكنها أن تُبقي أموالاً جمَّة في الوطن عِوضاً عن تصديرها للخارج عبر استقطاب خُبراء أجانب ليس لهم من الخبرة إلا الاسم؟ هل تعي دول النفط أن بناء وطن تعليمي مجوَّد يُغنيها بعد حين عن اقتصاد وقوده النّفط فيجعلهم تحت رحمته مع تقلبات السوق؟

يروي الدكتور عادل رشاد في قراءته لواقع التعليم العربي أن "سنغافورة" استطاعت خلال خمسين عاما أن تخرج من ركام الفقر والتخلف إلى عرش الدول الصناعية الكبرى بفضل إعادة خارطة الطريق للتعليم؛ فمن المبادرات التي جربتها "سنغافورة" لتطوير التعليم "مدارس التفكير.. تُعلِّم الأٌمَّة" حيث ارتكزت على أربعة محاور رئيسية وهي: إعادة النظر في أجور المُعلمين، وإعطاء مُديري المدارس الاستقلالية في اتخاذ القرارات بما يتناسب وبيئة المدرسة ومجتمعها، وإلغاء الفِرق التفتيشية بمختلف مسمياتها واستحداث التميّز المدرسي، وتقسيم المدارس إلى مجموعات يُشرف عليها خُبراء مختصون لتذليل الصعاب التي قد تُعاني منها المدارس.

إذا نحن بحاجة ماسة إلى إعادة ترتيب الأوراق أمام ما تشهده المنطقة العربية من غليان وتجاذبات فكريّة وسياسيّة وعسكريّة، نحن بحاجة لوضع المُعلم على العرش الحقيقي كقمة سامية بالهرم التربوي، نحن بحاجة إلى تقييم المناهج بما يتوافق مع متغيرات العالم وتطور المعرفة لا أن تُبنى وفق القرارات السياسية، الشعوب العربية تتطلع إلى من يأخذ بيدها ويشدُّ من أزرها فيما تملكه من إبداعات وخبرات ومدارك معرفية ومهاريّة عاليّة.

sultankamis@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك