مواقف خالدة في ذاكرة معتقة(2)

علي بن كفيتان بيت سعيد

أبْحَرتْ سفينة الذكريات بمُحمَّد إلى ذلك الماضي البعيد متنهدا: "رحم الله ذلك الزمن الجميل"، ثم يقول رغم شظف العيش وقساوة الحياة كان هناك دائما شيء جميل نحلم به وننتظره ليأتي غدا، ويستطرد قائلا كانت الناس غير الناس، اليوم أحس في عيونهم بالرحمة وأنا صغير؛ فالكل يناديني ويكنيني بأفضل الأسماء؛ سواء من خزانة أجدادي أو من إيحاءات القوة والصمود كان يناديني أحدهم أيها الأسد (قضر)، أو أيها الشجاع الهمام كرمز للقوة والعنفوان، ولا شك أنَّ كل تلك الصفات والكنى صنعت الكثير في شخصية محمد.

يقول محمد في ذات يوم حضر خالي سعيد متوشحا ببندقيته الجميلة، كم أعجبتني، وكم حلمت أن أملك مثلها، ذهبت إليه وسلم عليَّ، ثم جلست إلى جواره بعد أن سلَّم على الجميع، خاصة أمي التي لا أرى ابتسامتها كاملة إلا بقدوم هذا الملاك الجميل؛ ففي العادة يحضر خالي معه بعض الأكل، وفي كل مرة يهدي أمي ثوبا جميلا كانت تتفاخر به أمام النساء، قائلة: "هذه هدية سعيد"، عندما أراها فرحة كذلك أقول في نفسي: "ليتني أصبحت كبيرا لأهدى أمي ثوبا وأشياء أخرى أحس بأنها تريدها، ولكن عفافها الرباني يمنعها أن تطلبها من أبي".

في مثل هذا المناسبة، وبحضور ضيف كخالي، تُوقد النار تحت شجرة التين الكبيرة أمام كهفنا، ويتم طبخ ما أحضره معه ويحتفل الجميع بهذه المناسبة فهو يحضر الرز وفي أحيان أخرى مقاديد اللحم الشهية التي ينتظرها الجميع ومعظم الحضور من النساء والأطفال وكبار السن، لهذا كان خالي ذا شعبية كبيرة في مجتمعات الكهوف فهو يذهب لعدة تجمعات ويولم لهم بما أحضره معه.

قالت له أمي ذات يوم: "متى ستزوج؟" بلهجة قوية حاسمة، "بدلًا من أن توزِّع ما كسبت على السكون، تزوج، وخذ لك جانبا من هذا الكهف الواسع كعش للزوجية"، فيقول ضاحكا ومقبلا رأسها: "سيأتي اليوم الذي نحتفل فيه معا بهذه المناسبة". ولا شك أنني علمت بفراستي أن أمي كانت تفضل أن يتزوج خالي من بنات كهفنا، وهو بطبيعة الحال يفهم تلميحاتها التي لا تخلو من الوضوح الشديد فهي لا تجيد المداراة.

بعد أن تغدى الجميع من وليمة خالي، زحفت إلى جانبه وقلت له: "خالي، كم هي بندقيتك جميلة!"، فضحك كعادته وقال لي: "هل تريد أن تجربها؟"، ولم أتردد أمام هذا العرض المغري، فقال: "اجلس في حجري". وأرشدني كيف أضع سبَّابتي على مكان الإطلاق، وكيف أصوب ناحية الهدف الذي اختاره وهو عبارة عن كهف آخر في الناحية المقابلة من الوادي، وعندما عمَّر خالي البندقية صرختْ أُمي: "لا تُعلِّم الولد الرمي، فقد يقتلنا يوما، أو يقتل أحدًا إذا وجد سلاحًا". سكت لبرهة، ثم قال: "أن يتعلم الرماية خير له من رعي العجول"، وهنا زاد تصميمي على الضربة التي لا أعلم أين وصلت عندما أطلقتها؛ لأنني أغمضت كلتا عيني قبل أن أطلقها، وكنت أسمع نبضات قلبي تدقُّ بقوة كما لو كان قلبي في أذني وبعدها أصبحت بطل أطفال الكهف.

فجدتي كانت مُفتخرة بتلك الرمية الطائشة، وأمي كانت منزعجة وخائفة، وخالي احتفل بهذه المناسبة بأنَّ قام من جلسته ورقص بالبندقية مُردِّدا: "لقد أصبت الهدف بدقة"، فقلت في نفسي: "هل فعلا أصبت الهدف، وأنا مُغمض العينين، ربما يُجاملني الرجل". وفي اليوم التالي ذهبت متعمدا لزيارة الكهف المقابل لأجد أنني بالفعل أصبت الهدف، ومع ذلك ظلت الحيرة في نفسي لوقت طويل، ولم أعلم أنني أنا من تكفل بمهمة الإطلاق فقط، أما التصويب فكان لخالي -رحمه الله- ولكنها كانت لحظات لن أنساها طوال عمري.

وفي آخر هذا المشهد، طأطأ مُحمَّد برأسه المحمل بهموم السنين للأرض، وهو يحفر برأس عصاة، وقال لي بكلمات تعلوها العبرات: "كان ذلك هو اللقاء الأخير بيننا"، وظلت حفلة شجرة التين العملاقة ورصاصتي في الكهف البعيد تخليدا أبديًّا لذكرى هذا الملاك الذي أتى ورحل في يوم واحد.

وفي المساء، كانت جميع قصص الراوي العجوز في الكهف عن مأثر حمل واستخدام السلاح ودقة الإصابة، وفي كل مرة كان يُمجِّد إصابتي الدقيقة للهدف، كم كان ذلك يشعرني بالسعادة والفخر بين أقراني.

((موعدنا يتجدد الأسبوع المقبل، بإذن الله)).. حفظ الله عمان وحفظ جلالة السلطان.

alikafetan@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك