بدائل السجون في السلطنة

علي بن مسعود المعشني

بتطور حياة الإنسان تتطور أنماط الحياة والتفكير والسلوك وتتعدد الحاجات والبدائل، فيصبح اليوم ماضياً وغدًا مستقبلاً، وماهو ممكن ومستساغ اليوم قد يصبح بفعل التطور ممقوتًا ومذمومًا ومهجورًا، وفي حياتنا الكثير والكثير من الأمثلة التي لا يمكن حصرها أو إحصاؤها من نماذج وأطوار تقادمت وتجاوزها الزمن ولم تعد تلبي حاجات الأفراد أو المجتمعات، أو تمثل تطلعاتهم.

ومن جملة هذه الأمثلة العقوبات القانونية التي تحملها قوانين كل بلدٍ بشأن الجرائم أو الجُنح أو المخالفات وعلى رأس هذه العقوبات وأهمها السجون.

فعقوبة السجن والسجون عمومًا تُعتبر من أقدم العقوبات في التاريخ الإنساني والتي مارستها جميع الشعوب بلا استثناء، وبالتالي تعتبر من التجارب المتراكمة في حياتهم والقابلة للتقييم والنقد والتقويم بعد هذه القرون الطويلة من التطبيق والممارسة ورؤية النتائج على الأرض.

لهذا قلبت الشعوب الرأي في خلق بدائل للعقوبات جميعها في العقود الأخيرة كل وفق ثقافته وأنماط حياته بما يُحقق الغاية ويُعدد الوسيلة بلا إفراط أو تفريط.

وإزاء تشعب أنماط الحياة وتُعدد مصالح النَّاس ومصادر سعيهم وأرزاقهم، تولت الحاجة لتشريعات جديدة تحتكم لفلسفة العقاب وتطبيق القانون ورعاية الحقوق دون أضرار جانبية بالفرد أو المجتمع أو بماهية المكون الأكبر وهو الدولة ومكوناتها وحاجاتها.

ونحن في سلطنتنا الحبيبة جزء لا يتجزأ من هذا العالم الذي يموج بالحراك ويدفع بالجديد دومًا محافظًا على لب الفكرة وعمق المقصد مع تعدد الوسائل الملبية له.

فلدينا العديد من القوانين النافذة والتي تحتوي على جملة من المواد العقابية بالسجن لمدد مختلفة، والتي تحتاج اليوم إلى المراجعة وإعادة النظر فيها واستبدالها بجملة من العقوبات الذكية والتي تواكب العصر وتُحقق في ذات الوقت الردع للجاني دون أذى، طالما سلمنا بأنّ القصد في النهاية هو إصلاح الفرد وليس إلحاق الأذى به.

فتجربة السجن هي أسوأ تجربة يُمكن أن يمر بها إنسان، وهي في البلاد الفتية والناشئة عقوبة مركبة من عدد من العقوبات غير المرئية للأسف الشديد، ويمكن أن نصفها بأنّها عقوبة تمتد آثارها السلبية للفرد ومن يُعيل ولمجتمعه الصغير فترة العقوبة، وبالأذى المادي والنفسي بعد انقضاء العقوبة، ومن هنا يمكننا القول بأنّها لم تعد عقوبة شخصية كما تحدد العديد من القوانين في العالم اليوم، بل عقوبة جماعية بكل المقاييس.

فالشخص حين يدخل السجن يفقد تلقائيًا عمله ومصدر رزقه، وبالتالي تُحرم أسرته من دخله وتصبح عالة على المجتمع ومشروع تفكك أسري قابل للانفجار والتشظي وإن كان صاحب حرفة أو موهبة حُرم المجتمع منها، وبعد خروجه من السجن يحتاج لفترة زمنية لإعادة الاعتبار له، وينظر الناس إليه في المُجتمعات التقليدية نظرة دونية قد تسبب له انكسارا نفسيا وحقدا اجتماعيا، وهذه من الأعراض التي تتنافى تمامًا مع قواعد التربية والإصلاح.

يُضاف إلى ذلك أنّ الدراسات والبحوث في عددٍ من البلاد بينت أنّ أكثر من 50% من نزلاء السجون لأول مرة يسجلون في قضايا (عود) أي تكرار الجرائم وهذا دليل قوي على أن السجون لم تعد مكانًا ناجعًا للإصلاح، بل وكرًا من أوكار الجريمة وتفريخ المجرمين.

لهذا تعالت الأصوات بضرورة إيجاد بدائل للسجون وخلق عقوبات بديلة تحفظ الحقوق دون إخلال بالفرد أو المجتمع.

فلدينا اليوم في السلطنة المجال مفتوح لرجال القانون والقضاء والمعنيين بالأمر لمراجعة جملة من الأحكام بالسجن واستبدالها بالغرامات المالية، أي أنّ يشتمل منطوق الحكم على السجن أو دفع غرامة مالية تقدر بما يوازي مدة السجن، أو الحرمان من الحقوق المدنية لمدد محددة، كالمنع من السفر أو حجز جواز السفر أو البطاقة المدنية أو رخصة القيادة، أو الحرمان من الخدمات لمدد معينة كالهاتف أو تسجيل مركبة أو عقار باسمه، أو الحرمان من بعض الحقوق الطبيعية لبعض الموهوبين كالكتابة أو النشر أو إقامة المناشط بأنواعها أو حق الترشح أو الانتخاب أو رئاسة جمعيات أو صحف أو عضوية جمعيات ونقابات، أو الحرمان من الأوسمة والنياشين، أو القيام بأعمال للمجتمع بما يجيد أو العمل تطوعيًا وهكذا.

علمًا بأنّ هناك قوانين عربية (مصر والبحرين)اشتملت على حق المدان في التماس القيام بأعمال للمجتمع مقابل مدد أحكام معينة بالسجن كعقوبات بديلة، كون السجن لا يلبي لجميع نزلائه ممارسة حاجاتهم ومواهبهم بالحرية والكيفية المطلوبة، بل قد يتسبب في قتل قدرات ومواهب خلاقة ويحرم المجتمع من نفعها.

السجن في ظل تسارع حياتنا اليوم وتشعبها وتعدد خياراتها لم يعد عقوبة بل أذى للإنسان وهدرًا لكرامته وتعطيل لطاقاته ورسالته في الحياة، وأصبح كما ذكرنا عقوبة جماعية أكثر من كونه عقوبة شخصية، وعبئاً على الدولة والمجتمع معًا نفسيًا وأخلاقيًا وماديًا. ولم يعد وسيلة إصلاح بل وكراً وحاضناً للإجرام والأمراض والآفات الاجتماعية الضارة بالفرد والمجتمع معًا، من هنا أتت الحاجة وآن الأوان أن نُعيد التفكير والتقييم جذريًا لهذه التجربة بحيث لا يعاقب بالسجن إلا من يُشكل خطورة فعلية قصوى على المجتمع والسلم المجتمعي والأمن العام للوطن.

كما يتطلب الواقع منِّا اليوم القيام بإجراءات وقائية تُقلل من شأن التقاضي وعقوبات السجن وعلى رأسها تهمة "الشيكات بدون رصيد" كخطوة أولى، وذلك عبر السماح للبنوك بمنح عملائها سقف حساب مكشوف يُعادل إجمالي الراتب لمواجهة هكذا ضرورة، تمهيدًا لتشريع يسمح للبنوك باعتبار شيكات العملاء ديناً إلى سقف زمني أو مالي محدد، وبما يسمح به دخل العميل ولا يُخل بتحصيل مبلغ الدين الافتراضي ما بين البنك والعميل . وهذه الخطوات من باب التحرز والوقاية وصون الحقوق وتخفيف العبء على السلطات القضائية والضبطية في البلاد والتي تُشكل فيها قضايا الشيكات رقمًا سنويًا لا يُستهان به .

قبل اللقاء: لا يُمكن أن نحلم بالتقدم ونحن مازلنا نجعل من الاستثناء قاعدة ومن القاعدة استثناءً، ولا يمكن أن نخطوا خطوة للأمام ونحن نعيش تنازعاً وتداخل اختصاصات حاد بين المؤسسات الحكومية، ولا يمكن أن ننعش ونطور الجهاز الإداري للدولة بدون عقول جديدة والركون للغة وثقافة البحث والاستطلاع والإحصاء لنخطط بإحكام ونستشرف المستقبل بارتياح.

وبالشكر تدوم النعم

Ali95312606@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك