مُجرَّد فقاعة!

هلال الزَّيدي

دُوْن سابقِ إنذار أو شعور بحدوث شيء ما، تتكون الفُقاعة من زبدٍ ورغوة اللاشيء والخواء؛ فتنتفخ وتنتشي مع هبوب الهواء العابر، فتحملُها النسمات وتتمادى ببيرقها الخدَّاع في فضاء اللاوجود، لتتفتَّق لديها إشارات الزهو بنفسها؛ فيختال جسدها في بيئةٍ دَفَعت الغباء إلى الساحة واغتالت الذكاء في قعر الباحة، فينقُر كعبها العالي في نفوس تضعُف كلما تنفست الهواء المحشو بكثرة الكلام المنمَّق بألوان الطيف السبعة، وهنا تنجرفُ العامة دون الخاصة، وتتهاوى الضحايا في حضورها سمعا وطاعة، ويتفاعل المهرِّجون معها من حيث الشكل الملطَّخ بمساحيق التجميل؛ لتقف أمام السجنجل الخداع ببهرجها، فتخاطبه: ألستُ أجملهن؟ فأنا أمتلك ثورة من الإبداع ووفرة من المعجبين الجياع، وأنا الأولى وليست لي ثانية؛ فلديَّ من الموهبة صدر وعجز وقافية، وأمتلك قوة التأثير على من لا لهم إلا حب التغيير في عالم افتراضي التعبير.. نعم إنني حرباء قادرة على التحول والتبدُّل بحسب الطقوس والشخوص. ولأنني أعرف من أين تؤرب الكتف؟ وكيف تُبنى الجمل دون حروف الجر والعطف؟ هنا تُطلق تلك الفقاعة ضحكتها لتستفز مرآتها، فتقول: لما أنتِ واقفة صامتة؟ لماذا لا ترُدين عليَّ؟ نعم.. نعم.. عرفتُ أنَّ السكوت علامة الرضا؛ بمعنى: أنكِ موافقة على كلامي، وطبعا هذا ما يجب أن يكون؛ لأنَّه لا أحد يختلف معي، وإن اختلفوا لكنهم عاجزون عن قوله أمامي وهذا بحد ذاته يكفي، أمَا رأيتِ كيف تثور عباراتهم ثناء وتبجيلا عندما أدَّعي العِطاس؟ أما رأيتِ يا مرآتي التي لا تُشبهيني كيف يهرولون لتلقّي ذرات العِطاس المُتطاير من أنفي وفمي..؟ ها هم يلعقونه ويُعلقونه لوحة على جُدران مكاتبهم.. أتعرفين يا مرآتي أنني لا أدعي المعرفة لكنهم هم من قالوا بأنني سيدة قومي في المعرفة، وأنا أريد أن أكون سيدتهم ومرجعهم، كم أتلذَّذ عندما يختفي أحدهم عندما أختفي، ويظهر مع أول رمشة من رموش عيوني المستعارة.. يا لفداحة الفكر الذي يُعتبر أنه فكر وهو براء من الفكر، فقط ثياب وجسد يهوي لتقبيل الكُندرة ليصل إلى مقامات الرجال.. هنا تُطلق قهقهاتها وتُطفئ الإضاءة مرددة: نامي أيتها المرآة الخدَّاعة، فغداً لديَّ الكثير في نظرهم، لكنه لا يسوى عند ذلك الرجل شيئا.

تتعالى الفقاعة فتنقلها الرياح من مكان إلى آخر؛ فهي أشبه ببالونة طفل يُداعبها الهواء فكلما علت هطلت دموعه خوفا من مغادرتها عنه، وعندما تخفُت النسمات تعود أدراجها إلى حضنه فتتعالى ضحكاته محاولا إعادة الكرَّة من أجل مُتعة بريئة، فهو بين حزن ينساق.. وفرح يشتاق.. والمسألة هنا متشابه، فهم أطفال في تصرفاتهم وأفكارهم -لكنها أي الأفكار ليست بريئة كبراءة الطفل، وإنما غدّارة كغدر الذئاب- وكبار في ثيابهم وأسمائهم التي يعتقدون أنها ستوصلهم إلى حيث أرادوا؛ لأنهم لم يفطنوا أنَّ إرادة الله -عزَّ وجلَّ- فوق كل شيء، وما هم عليه إنما هو مدٌ من الله لأنه يمدهم وهم في غيهم يعمهون، فتندثر حاسة السمع لديهم فهم لا يسمعون وتتسمر لديهم حاسة البصر فهم لا يبصرون إلا بقدر عتبة أنفوهم المزكومة برائحة العفن عندما تتكاثر عليه القطط المشردة الضالة، كتداعي الأكلة على قصعتها؛ لأنهم كغثاء السيل ليس إلا، فيسيطر عليهم الوهن، فهم أوهن من بيت العنكبوت.

تعود الفُقاعة إلى سجنجلها مغترة بثنائهم ومخدوعة بوهم يجرها إلى مزابل التاريخ إن كانت هناك مزبلة تستوعب كعوبها الموشكة على السقوط.. فتنظر إلى صورتها المعفَّرة بسراب الوجود، فتقول: مرآتي وحبيبتي اشتقت إليكِ كثيرا؛ لأنكِ أنتِ من تشعرين بوجودي، فتشبهيني كثيرا أحيانا، وتتفقين معي، أليس كذلك؟ لما لا تردين عليَّ؟ صمتك هذا يخرجني عن طوري الأنثوي، لكن لا عليك سأتجاهله؛ لأنه يُشبه ذلك الرجل الشرقي الذي أخاف منه كثيرا؛ لأنه الوحيد الذي يعرف من أنا.. أوووه.. لماذا أعكر مزاجي به فهو واحد، لكنهم هم كثيرون وأصحاب قوة وقرار، لكن أتدركين شيئا مما أتخوف منه؟! نعم هو واحد، لكنه عن مليون رجل فهو لا يهاب ولا يكترث بهم لأنهم كثيرون في العدة لكنهم فقراء في العتاد.. فتلك حقيقة، أنتِ متفقة معي بأنهم لا يستطيعون مجاراته في كل شيء.. أوووه، لماذا أنا سلبية في تفكيري. هنا ترد عليها مرآتها: دعيه وشأنه، فذاك "قريب على قربٍ، بعيد على بعد"، فهو غير مكترث بوجودك أو حتى شعورهم تجاهك.. حتى ذلك المقال الذي كتبه لم يكن لك أيتها الساذجة لو تقرأين بين السطور لعرفتي من كان يقصد.. هنا تردُّ الفقاعة بفم فاغر وعيون نزقه: وأخيرا تفوهتي وتحدثتي، ويا ليتك حافظتي على صمتك، سأعتبر نفسي بأني لم أسمع شيء منك؛ فلو أنك تُدركين ما قالوه لي لصمتي إلى الأبد؛ فأخذت تبحث في حقيبتها المحمّرة خجلا من هول ما تضمه فيها لتبحث عن هاتفها المشحون بقوائم ومجموعات وأرقام وعبارات هلامية المعنى واللفظ.. لتحمله في يدها متراقصة في غنج ووهج يشق صمت السرير إذا داهمه الصرير، فتقول: أحزري ماذا أرسلَ لي شاعري المعذب؟ مهلا.. مهلا لا أحتاج إلى تخمينك.. اسمعي هذه الأبيات التي حفرها في صدر حضوري وعلى روائح عطوري، قلت اسمعي وكفى.. اسمعي .. امممممم.. أين رسالته؟ نعم.. نعم هاهي اسمعي: "مهفهفة بيضاء غير مفاضة.. ترائبها مصقولة كالسجنجل.. وكشح لطيف كالجديل مخصر.. وساق كأنبوب الشقي المذلل"، هنا تنفجر مرآتها ضاحكة ومتساءلة: أهذا شِعر قاله لك مُعذبك؟ فترد عليها نعم، وما المضحك فيه؟ نعم كنت متوقعة بأنك لم تفهمِ كلماته لأنه يمتلك مخزونا لغويا قويا.. فترد المرآة: سيدتي "الفقاعة" تلك أبيات لا يقوى عليها مُعذبك لأنه لا طاقة له بها، ولا ناقة له فيها ولا جمل، تلك أبيات من مُعلقة الشاعر الجاهلي امرؤ القيس، فلا تشطحي وتتبجحي بما ليس لك وعليك ألا تنسبي أتعاب غيرك لك لأن الرياح القوية ستفقأك في غمضة عين.. وعليك أن تسمعي ما قاله أمير الشعراء أحمد شوقي لتأخذي العبرة: "خَدَعوها بِقَولِهِم حَسناءُ.. وَالغَواني يَغُرُّهُنَّ الثَناءُ.. أَتُراها تَناسَت اسمِيَ لَمّا كَثُرَت في غَرامِها الأَسماءُ.."، وما خفي كان أعظم سيدتي فلا تنجرِّي خلف السراب.. هنا تصمت الفقاعة فتهب ريح عاصفة لتتبدد إلى الأبد.

------------------------------

همسة: تتكاثر الفقاعات حولهم؛ لأنَّ رغوة الصابون قوية فتولِّد الفقاعات كثيرة تتفتق واحدة فتظهر أخرى وهكذا تسير الأمور، لكن عندما تأتي الرياح مقبلة غير مدبرة، فإنها تبدد تلك الفقاعات لتحولها إلى عدم، وتزيح عزائم الرجال سطوة الأشرار الذين يعيشون على الاعتقاد بأنهم هم فقط ومن بعدهم الطوفان.. تريَّثوا يا صُنَّاع الفقاعات لأنه ما بُني على باطل فهو باطل.. وباطل ما تصنعون.. لأنكم مجرد فقاعة.

* كاتبٌ وإعلامي

abuzaidi2007@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك