موازنة تعكس حالة الاضطراب السياسي

فهمي الكتوت

احتلت موازنة السعودية أهمية خاصة لدى الأوساط السياسية، باعتبارها مؤشرًا لاستمرار تدهور الأوضاع السياسية والأمنية في المنطقة، وقد سجل عام 2015 أكبر عجز في تاريخ السعودية بلغت قيمته 98 مليار دولار، وشكل نحو 15% من الناتج المحلي الإجمالي، متأثرا بانخفاض الإيرادات بـنسبة 42% مقارنة مع 2014، وارتفاع النفقات العسكرية.

ومن المتوقع أن يشهد عام 2016 عجزًا مقداره 87 مليار دولار بسبب انخفاض أسعار النفط بنسبة تزيد على 60% لتصل إلى ما دون 40 دولاراً للبرميل. والتورط في حرب اليمن، مما حدا بالمملكة إلى اللجوء إلى الاقتراض واستخدام احتياطياتها النقدية. وتقدر موازنة عام 2016 التقديرية بـ 224 مليار دولار حيث خفضت الحكومة السعودية الإنفاق العام بقيمة 36 مليار دولار مقارنة مع العام 2015، وتبلغ الإيرادات 137 مليار دولار.

وقد شهدت الموازنة التقديرية تقليص النفقات الخدمية، مقابل زيادة كبيرة في الإنفاق العسكري فقد بلغت نسبة النفقات العسكرية نحو 25% من موازنة عام 2016. وتعتبر السعودية من أكبر مستوردي الأسلحة في العالم، فقد بلغت قيمة استيرادها 6.4 مليار دولار في العام 2014 وارتفعت إلى 9.8 مليار دولار في 2015. في حين أقدمت الحكومة السعودية على سلسلة من الإجراءات التقشفية برفع أسعار المشتقات النفطية من 50% إلى 67% كما رفعت أسعار المياه والكهرباء، وأعلنت وزارة المالية السعودية أن المملكة ستكمل خطوات تطبيق ضريبة القيمة المضافة بالتنسيق مع بقية دول مجلس التعاون الخليجي.

ويُمكن قراءة الموازنة السعودية من زاويتين، الأولى تتعلق بحرب أسعار النفط التي تخوضها نيابة عن أمريكا ضد روسيا وإيران وفنزويلا، والثانية تتعلق بزيادة الإنفاق العسكري، التي تعكس الدور المحوري للسعودية في الإستراتيجية الأمريكية إزاء الصراعات الدائرة في المنطقة. والتي تعكس استمرار حالة عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي ليس في المنطقة العربية فحسب بل وفي العالم، فالسعودية تتحكم بأسعار النفط عالمياً بصفتها أكبر مصدر للنفط، وبحكم تأثيرها السياسي على عدد من دول أوبك.

وقد جاء الإعلان السعودي التركي بتشكيل مجلس تعاون استراتيجي بين البلدين يتناول مختلف المجالات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية والتجارية والاستثمارية وغيرها، في هذا السياق لتشكيل محور مدعوم من الحلف الأطلسي، في مواجهة المحور "السوري الإيراني العراقي" الذي حقق نجاحات في الآونة الأخيرة باستعادة الجيشان السوري والعراقي مساحات واسعة من القوى الظلامية. ويأتي المحور الجديد كمحاولة لإعادة ترتيب الأوراق لمواجهة مرحلة ما بعد داعش، وإعادة ترميم الجبهة المتصدعة من جراء الموقف الروسي الحازم في قضية الإرهاب، وبعد فرض رؤية جديدة في مواجهة الأزمة السورية، فقد استثمرت روسيا إسقاط طائرتها العسكرية بجدارة، في تقليم أظافر تركيا، وسد بعض خطوط الإمداد والمنافذ الإرهابية.

ما هو الاستخلاص الرئيسي لما يجري في المنطقة؟

نجاح إستراتيجية الأمن الإسرائيلي بتراجع الصراع العربي الإسرائيلي، وتحويله إلى صراع داخلي بين دول الإقليم "عربية-عربية أو عربية-إسلامية" على قاعدة مذهبية وطائفية، علما أن الخطر الحقيقي الذي يواجه المنطقة "إسرائيل" وليس إيران. ومن يعتقد أنّ السعودية ليست مستهدفة وفي مأمن بفضل تحالفاتها وإنفاقها العسكري فهو واهم، فالسعودية مستهدفة من قبل الاحتكارات الرأسمالية كما سوريا والعراق وبقية أجزاء الوطن العربي. وكما نجحت أمريكا في تجنيد الدول العربية ضد العراق في معركة حفر الباطن، نجحت الآن في تجنيد مجموعة من الدول العربية وتركيا ضد سوريا، "أكلت يوم أُكل الثور الأبيض".

أما استهداف العراق فجاء باحتلاله وتدمير مؤسساته وبنيته التحتية وخاصة الجيش، بذرائع كاذبة مثل "البرنامج النووي" أو "علاقة صدام بالقاعدة" واليوم سوريا مستهدفة باحتلال أجزاء واسعة من أراضيها من قبل القوى الظلامية بدعم "عربي، تركي، أمريكي"، بذريعة حقوق الإنسان وغياب الديمقراطية في سوريا. لست بصدد التقليل من أهمية الديمقراطية وحقوق الإنسان في سوريا وغيرها، لكن فاقد الشيء لا يُعطيه.

يقول محمد حسنين هيكل كانت سوريا قلب الصراع على مستقبل الوطن العربي، وقد تركناها بمفردها، فى حرب أكتوبر 1973، وقت قبولنا بوقف إطلاق النّار، رجوت السادات "كيف يتم وقف إطلاق النار دون إبلاغ السوريين، فقال لي وقتها أبلغهم عبر السوفييت، فقلت اتفقوا معنا على الحرب وتوقيتها ووقت خروجنا علينا إبلاغهم". لم يكن مستعدًا واعتقد أنّ الوطن العربي سيظل متأثرًا بهذا الموقف الذي انفردنا به ودخلنا مع الجميع فى قرار الحرب، وخرجنا بمفردنا في قرار السلم. فالهدف إذن سوريا وليس الديمقراطية في سوريا.

أما كيف السعودية مستهدفة؛ فأولاً بالتآمر على فوائضها المالية، باستنزافها بزيادة الإنفاق العسكري وتحويل الجزء الأهم منها لصالح الاحتكارات الرأسمالية، واستخدام زيادة ضخ النفط السعودي لانهيار الأسعار، وإضعاف الدور الروسي في محاولة بناء عالم مُتعدد القطبية، أي بمحاربة روسيا حتى آخر ريال وبرميل نفط سعودي، ويصب هذا الموقف في صالح التوجه الأمريكي باستنزاف القدرات المالية للسعودية. سواء من خلال خفض أسعار النفط أو من خلال الإنفاق العسكري، حيث تنفق السعودية سنوياً حوالي 100 مليار دولار وأكثر من إيراداتها. فإذا كان العداء الأمريكي-الإسرائيلي لدول عربية بعينها في هذه المرحلة، فإنّ العداء لكل الدول العربية يعتبر موقفاً إستراتيجيا، فإذا كان النظام العربي يعلم بذلك فتلك مصيبة وإذا كان لا يعلم فالمصيبة أكبر.

 

 

 

 

تعليق عبر الفيس بوك