العالم كما يبدو من الطائرة

فيصل الحضرمي

يبدو العالم متوقفاً في هذه اللحظة وأنا أرقبه من مقعدي في الطائرة كما لو كان الارتفاع يسرق من العالم حقيقته ويحيله لوحة أو صورة. كما لو أنّه اتخذ وضعيّة السكون المطلق امتثالاً لريشة رسام أو عدسة مصور مندسين أبداً في مكان ما من هذا الفضاء الفسيح وهما يحاولان عبثاً الانتهاء من مهمة لا تني تتعقد يوماً إثر يوم. من النافذة أسقط على الأشياء نظرات ترتد إلى عيني كما أرسلتها أول مرة نقية لا يشوبها ألم أو تعاسة. جميع التفاصيل تبث الطمأنينة في النفس وتبعث على الارتياح. لا حراك من أي نوع يمكن للعين رصده من هذه المسافة. العالم من الأعلى يبدو بريئاً كأنما بالارتفاع عاد سيرته الأولى فرجع طفلاً كيوم ولدته أمه أيام لم يكن بشر ولم تكن دموع. لا وجود للبشر في هذه النسخة العلوية من العالم ولو على هيئة نمل أو ذباب، أمّا ناقلاتهم البرية والمائية التي نجحت في انتهاك قانون الحجب الذي يمارسه البعد في العادة فإنّها لم تفلت من قانون التجمّد الذي فرضه الارتفاع.

الاحتجاب وانعدام الحركة المرادفان للموت والفناء يضيفان على البشرية والعالم بأسره صفة الطيبة التي لم يمتلكاها يوماً والتي يمتلكها الأموات حصراً بحسب جورج أورويل الذي يخبرنا أن الإنسان الطيب الوحيد هو الإنسان الميت. لن يخطر ببالك وأنت ترى هذه الوداعة المرتسمة على محيا اللوحة في الأسفل أنك تنظر إلى عالم تقتتل فيه داحس والغبراء بشكل يومي لأنّ فرساً سبقت حصاناً. عالم لا تزال المرأة تسبى فيه بعد أربعة عشر قرناً من "التطور" الذي تبدو بعض الجماجم محصنة ضده بفعل تحجرها وتكلس الأدمغة بين جدرانها المغلقة على الماضي. الماضي الذي يكتب دائماً بعد فوات الأوان، فيغدو من البديهي الاستعانة بالمخيلة لملء الفراغات الناجمة عن قصور الذاكرة نتيجة البون التاريخي بين ما حدث وبين من يحاول التذكر، وبين ما يعتقد أنّه حدث ومن يحاول استحضار ما يعتقد حدوثه، فضلاً عن الانتحالات والاختلاقات المدسوسة بين دفتيه طلباً لمصلحة أو لمجرد التسلية المحضة.

عالم يموت فيه من الجوع عشرة آلاف شخص من كل مليون نسمة، بينما يعاني عشرون بالمائة من سكانه من نقص التغذية ويعيش نصف سكانه بدون مورد موثوق للماء والغذاء، في نفس الوقت الذي يأكل خمسة عشر بالمائة من البشر أكثر من حاجتهم فيبتلون بالوزن الزائد ويضطرون لإلقام المزابل فائضاً من الطعام هو في الحقيقة حاجة غيرهم. عالم لا يزال أربعة عشر بالمائة من سكانه أميّون، والجهل مبدأ الشر كما يقول سقراط. عالم لا يزال ربع عامريه بلا كهرباء وثلاثة وتسعون بالمئة منهم بلا كمبيوترات وتسعة وتسعون بالمئة منهم بلا تعليم جامعي. عالم يحرم نصف قاطنيه من حرية الكلام والتصرف وفق معتقداتهم خشية الوقوع ضحية للاعتداء والاعتقال والتعذيب والقتل.

العالم في الأسفل جسد يضج بالوجع تتناهشه عقبان الجوع والجهل والمرض والأهواء والمطامع. عالم يتقاسمه البعض كالكعكة بينما لا يجد البعض كسرة خبز يابسة يخرس بها بطنه. عالم فرقت فيه الحدود الوهميّة كخطوط الطول والعرض بين أفراد النوع الواحد والعرق الواحد والعائلة الواحدة. لكن لا وجود للحدود من هنا. الأرض لحمة واحدة لا تعترف بالفصل ولا تعرف الانفصال. ولا وجود للحدود هنا. هكذا تمخر الطائرة عباب الفضاء دون أن تكترث لنقاط الجمارك التي تتناسل أسفلها مثلما لا يكترث طائر أو سحابة وهما يقومان بالمثل. علت الطائرة فعلت على اختلافات البشر وأسباب نزاعاتهم وامحت الحدود وذابت نقاط التفتيش وسقطت جدران الفصل والعزل والعنصرية والضغينة على رؤوس رافعيها. وفي حين فرقت تلك الحدود بين البشر وفرضت عليهم هويّات متمايزة، أخذت الطائرة على عاتقها التقريب بين الناس ومنحت الجميع هوية واحدة هي هوية الراكب، واحتجبت ولو إلى حين جميع الهويات الأخرى التي تمايز عادةً بين بني البشر في العالم السفلي.

تعلمنا الطائرة ضرورة الارتفاع. الارتفاع لأجل التحليق فوق جميع الاعتبارات الساذجة التي أحالت العالم معملاً كبيراً يجري فيه الإنسان الحاكم بأمر أهوائه تجارب واسعة النطاق على المعمل ذاته كما لو كان دمار العالم لا يعني فناءه هو في نهاية المطاف. الارتفاع لأجل اكتساب نظرة النسر الذي بسموه سما فوق مستوى الحيثيات والتفاصيل الصغيرة فامتلك القدرة على اكتشاف تفاهتها وتفاهة الكائن الذي يرتهن بها ويضحي بسعادته لأجلها، والتخلص من نظرة الدودة الأفقيّة التي لا ترى من الصورة إلا بعداً واحداً قاصراً، وتجهل أنّ الأشياء ليست كما تبدو عليه في الواقع ما دامت العين غافلة عن إدراك بقيّة الأبعاد المشكلة لها، وما دام تعرفنا على الأشياء، وفهمنا لها محكوم بالنسبية نفسها التي يفسر آينشتاين عن طريقها لماذا يتعدد الواقع الواحد بتعدد الملاحظين بحسب موضع ووضعية حركة كل منهم، ولماذا أرى العالم من مقعدي هذا جامداً بلا حراك وهو البحر الهادر الذي لا تكف زرقته عن التموّج. وأخيراً وأولاً، الارتفاع لأجل تنسّم هواء الحرية الذي لا يعرف الخفقان سوى في الأعالي حيث تنعدم التصنيفات الضيقة وتتكشف الأوهام والأباطيل.

faisalsalim@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك