اتحدوا أيُّها الحُكام

د. صالح الفهدي

اتحدتم ضد "داعش" بعد أن طالت الجميع شروره، وأفجعت العالم فظائعه، وقصمت الشعوب والأوطان بوائقه، واتحادكم هذا عظيم، ولكن الأعظم منه أن تتحدوا في أمورٍ هي التي كونت هذا الفكرَ الظلامي الصادم، فإنَّ قضاءكم عليه جسداً لا يعني قضاءكم عليه فكراً، وعقيدةً؛ فقطعُ الأغصان والجذوع، لا يعني موات الشجر، وإنما الفعل الأصيل هو اجتثاث الجذور من الأعماق..!

اتحدوا أول ما تتحدوا ضد الجهل فهو آفة الشعوب، ودمار الأوطان، فما قام شعبٌ من ركام الحروب، ومن مستنقعات الفقر إلا بالعلم، العلم الذي يرى في أخلاقيات الشعوب، وفي ميادين العمل، وفي تعاملاتها، وفي شوارعها، وفي كلِّ زاوية من زوايا أوطانها، وليس العلم الذي يرى في أرقام الخرِّيجين من حَمَلة الشهادات والبضاعة زهيدة، ولا الذي يرى في كثرة الألقاب والنفوس خاوية..! علم المعرفة، والأخلاق، والإبداع، والابتكار، والبناء، والتعمير..!

اتحدوا لتقدِّموا لشعوبكم تجاربَ الدول التي تقدَّمت بفضل العلم، أوفدوا الخبراء لها، وارفدوا قطاع التعليم بأجزل ما تمتلكون من ثروات، فإن عجزت الموازنات في مخزون أموالها، وإن تقلصت الصناديق السيادية عن احتياطياتها، فلن تعجز عقول المتعلمين من شعوبكم، ولن تتقلص القوى البشرية عن بناء وتعمير أوطانها..!!

اتحدوا لبناء إنسان سليم الإدراك، حر الخيارات، وملِّكوه الوسائل التي تساعده على الإبداع، وأفسحوا له الطريق، وهيِّئوا له الظروف ليقدم أفضل ما وهبه الله من ذخائر. حينها ستجدون إنساناً لا يأبه لنشر الشائعات، ولا يكترث للمذهبيات والطائفيات.. إنساناً كل همه الرقي والتقدم والتطوير والإبداع والابتكار.. إنساناً يفكر في وطنه بحرية مسؤولة، وينظر ببصيرة فطنة.

اتحدوا ضد الفقر؛ فالفقر قيد للبشر، وإبقاءٌ لهم في جحور الظلام، فليس لشعوب جائعة أن تفكر في نماء أوطانها وأقصى همها لقمة تسد رمق بطونها..؟! وليس لها أن تنشدَ الأناشيدَ الوطنية بحماسة وهي ترتجف برداً..؟! الفقر عدو الشعوب، ومهلكةٌ لها، يقول سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "لو كان الفقر رجلاً لقتلته"، فما أوهنَ من أمة فقيرة أمام الأمم، وما أضعفَ من شعب هزيل أمام الشعوب. إنَّ الأمم التي لا تستطيع العيشَ دون قروض وديون هي أممٌ مقيدة، ينخرها الهم، وتكبلها قيود المذلة..! فهي لا تعيش إلا من أجل يومها، ولا تفكر إلا في قَرقَرة بطونها، فكيف يطلب منها التفكير في التنمية، والبذل، والعطاء..؟! يقول روبير تورغو: "إذا لم نحارب الفقر والجهل، فسنضطر يوماً لمحاربة الفقراء والجهلة"..!

إنَّ الإنسانَ إن لم يعش بكرامة، وهناءة في دول أنعم الله عليها بالرغد، والموارد الطبيعية الثرية فهو منكود، وإنه إن لم ترتق بعيشه ثروات وطنه عزًّا وإباءً فهو مشؤوم..! فكافحوا الفقرَ في أوطانكم مكافحتكم لعدو غاشم غزاها، واستأصلوه بالعدل والعلم والعمل، يفر عن أوطانكم، فتتخفف شعوبكم من قيودها، لتنطلق في فضاءات المنافسة، والتعمير.

اتحدوا ضد الفساد فما نخر بنيان وطن كما نخره الفساد، فهو العلة المشؤومة، والخلة المذمومة. فإن تمكن الفاسدون من الأوطان نهبوها، وسلبوا ذخائرها، وسرقوا أموالها، وجعلوا أعزة أهلها أذلة، وإن كنتم لهم بالمرصاد، وضربتم على أياديهم فقد سلم الوطن من علتهم، وأمن من أطماعهم. أما إذا أفسحتم لهم المجال، ورفعتم عنهم الرقابة فرخوا في كل عش، وسمموا كل منبع، فإذا بهم ينشرون الوباء في كل أوصال المجتمع، وإذا بالمجتمع بسببهم في عضال مزمن، وعاهات دائمة..!

اتحدوا ضد الفكر المسموم ومراجعه ورموزه، فإن الصراصير -كما يقال- لا يقضى عليها والبيت يعج بالأقذار..! إذ مهما فعلتم للقضاء على الشخوص الضالة، فإنه لا بد من استئصال المنابع، وردم المستنقعات، ونشر الأجواء الصحية، فكم من خطيب لا يزال في منبره يخطب وقد كان مُحرِّضاً للعنف، وأصبح غامزاً رامزاً به كي يبقى على منبره، مستمراً بذات الرسالة، ولكن بصيغ أخرى يدركها طلابه ومريدوه..! وكم من داعية نشر الجهالات، وحرض على الطائفية، والعنف، والاقتتال، لا يزال يجوب الأقطار دونما رادع، أو مانع..! وكم من وسيلة إعلامية لا تزال تبث سمومَ المذهبية، والتكفير..! فماذا فعلتم إذن وقد أبقيتم على المصدر..؟! وكيف تديرون التغيير إلى الفكر المتوازن، والخطاب المستنير إن أوكلتموه إلى أصحاب التشدد والتزمُّت ذاتهم؟!

إنَّ الفكرَ المعتدل هو سبيل الأمان لأممكم؛ فهو الفكر الذي يظهر الدين على حقيقته، وينقيه من الشوائب التي ألحقها به بعض أتباعه، حتى ضيعوا ملامح البشاشة والطهر والصباحة من وجهه، واستبدلوها بالعبوس والتقطيب والتكشير!!

يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله: "إنَّ كل تدين يجافي العلم ويخاصم الفكر ويرفض عقد صلح شريف مع الحياة هو تدين فقد صلاحيته للبقاء".

اتحدوا لإقامة أركان العدالة الاجتماعية؛ فالعدل أساس الحكم، والعدالة الاجتماعية صمام وحدة المجتمعات، وقوة لحمتها، فليس أمتن ما يقوي عرى الأوطان من عدالة تساوي بين الغني والفقير، وبين الوجيه والبسيط.. كما أنها جوهر المواطنة، وباعث الوطنية، فإن حقرتم شأن العدالة الاجتماعية فلا تسألوا شعوبكم عن واجبات المواطنة، ولا تطلبوا منهم تعضيد الوطنية..!

إن وطناً بلا عدالة كشجرة عقيمة لا تنبت ورقاً ولا تطلع ثمرا، هي عرضةٌ لعصف الرياح، وإن وطناً قائماً بالعدل، مقسطاً بالحق هو كالجبل الشامخ لا تناله الغوائل.

اتحدوا أيُّها الحكام لتعزيز القيم النبيلة العليا، فقد قامت الحضارات العظيمة بالقيم التي لم تلقن أبناء الوطن تلقيناً، ولم تحش في عقولهم حشواً، وإنما مورست في البيوت ودور التعليم وميادين العمل والأسواق والشوارع، وفي كل مفصل من مفاصل الحياة الاجتماعية ممارسةً واقعية لا يحيد عنها إلا شاذ، ولا يهملها إلا مستهتر، فإذا فرضتم القيم السامية الرفيعة على المجتمع فرضاً في أولها كنتم قادةً لأمم عظيمة، وأول ذلك وأساسه أن تتمثل فيكم هذه القيم، وأن تكونوا أنتم القدوات الحية التي تتأسى بها شعوبكم، أما إن دعيتم إليها وآتيتم ما يخالفها فلا تحاسبوا المخالف، ولا تعاقبوا المهمل..!

القيم الأخلاقية تأتي أولاً وقبل كل شيء، قبل التعليم؛ حيث إن "تعليم عقل الرجل وترك أخلاقه هو تعليم خطر على المجتمع" كما يقول ثيودور روزفلت.

اتحدوا ضد الاستبداد، فإنَّ الشعوب تُساس بالحكمة والعقل والمحبة والكياسة واللطف واللين، كما تُساس بالحزم أيضاً، ولكن في مواقع لا غنى عن الحزم فيها. أما الاستبداد فهو قرين الإذلال، وخدين المهانة؛ فالشعوب المستبدة لا تعرف لذة العيش، ولا طعم الإحساس بالحياة، فإن هي وغرت صدورها تألماً وكربةً مما يلحق بها فإنها غير مأمونة الثورة في أي حين، وإن هي عاشت بكرامة، وحرية مسؤولة، وهناء عيش، تتلقى حقوقها غير منقوصة، وتقوم بواجباتها وافية فإنها نعم النصير والعضيد، الحامية لحياضها، والمفتدية لحكامها.

اتحدوا من أجل تنمية شاملة غير منقوصة؛ تبدأ بالإنسان أولاً، فبئس تنمية ترفع البنيان وتدني الإنسان..! الإنسان هو مفتاح التنمية وساعدها المحرك لعجلاتها، ثم نوعوا في سبل الإنتاج، ولا تقصروها على النفط؛ إذ برهن واقع الحال أن النفط ليس هو دائما المعين، بل هو مصدرٌ ناضبٌ..! فاالله حبانا بنعم وموارد عظيمة تحتاج إلى تخطيط عظيم، وإرادة مقدامة، وجهود جبارة.

إنَّ اتحادكم أيُّها القادة والحكام في هذه الأسس لهو أعمق أثرا، وأبعد نظرا، فهي مقومات بناء الأوطان، وأساسيات نهضتها، وأركان عزتها، وهي محفزات التقدم فيها، ومشجعات التطوير في ميادينها. إنَّ تكامل الأوطان لا يكون إلا بالنظر الشامل، والنمو الكامل، في كل مفصل من مفاصلها، وكل ركن من أركانها فإن تم لها ذلك نَعِمت برغد العيش، وسَعِدت بهناءة الحياة، وكانت لكم ببشرها -قبل صروحها وسلاحها- سوراً علياً، وسدا منيعاً في كل حين.

تعليق عبر الفيس بوك