حربٌ شعواء في فضاء الإنترنت

زاهر المحروقي

أصْبَح فضاءُ الشبكة العنكبوتية ساحةً لحرب طائفية شعواء في الوطن العربي، خاصة في دول الخليج؛ ممَّا يدلُّ على خطورة الوضع في هذه الدول في السنوات المقبلة؛ إذ إنَّ الوضع الاقتصادي عندما يسوء فإن كل المشاكل ستظهر في العلن، وما يحصل الآن ليس إلا مُقدِّمات لما هو آتٍ مستقبلاً، ولا أريد أن أبدو متشائماً، إلا أنَّ أياماً قاتمة قادمة في ظني، بغياب رغبة حقيقية من المسؤولين بإيجاد الحلول لكثير من المشاكل المتراكمة؛ بل إنَّ بعض الحكومات قد لعبت دوراً فعَّالاً ومُهمًّا في تزكية العداوة بين المسلمين بعضهم البعض، برعايتها لحركات طائفية ومساندتها لحروب تحمل في طياتها رائحة الطائفية؛ إذ في خضم العدد المتزايد من القتلى في العراق وسوريا واليمن، تصاعدت وتيرة الخطاب الطائفي في الساحة العربية، وتعاظمت أصوات المتطرفين التي نشرت الرسائل العدائية بين السنة والشيعة، وساهمت بعض الدول في تزكية النيران بين الطرفين، بجيش من المغرِّدين يتبعون أجهزة المخابرات، مهمتهم إثارة الفتن بين المسلمين، بحجة أن البعض كفرة ومبتدعة، فانتشرت مسميات مثل "الرافضة" و"الصفوية" و"المجوس" و"الخوارج" و"الحشوية" و"النواصب"...وغيرها من المسميات التي تنتقص من الآخر؛ ويبدو أن الشعوب العربية والخليجية بالذات لم تستفد من ميزة ما سُمي بـ "دمقرطة الاتصالات"، لكنها استغلت هذه الديمقرطية في إشعال الفتن المذهبية والطائفية، وهذا يدل على هشاشة الذهنية.

في دراسة مهمة عن دور الشبكات الاجتماعية في نقل اللغة الطائفية، أجرتها "ألكساندرا سيجل" من مركز كارنيجي للشرق الأوسط، نُشرت في موقع المركز بتاريخ 20/12/2015، يُبين تحليل ما يفوق الـ7 ملايين تغريدة باللغة العربية، تم بثها بين شهري فبراير وأغسطس 2015، أنَّ أعمالَ العنف والشبكات الاجتماعية لعبت دوراً أساسيًّا في نقل اللغة الطائفية وكذلك المناهضة للطائفية على تويتر، وأن الغالبية العظمى من التغريدات الطائفية والتي تضمَّنت لغة معادية للشيعة أو للسنة أو مناهضة للطائفية، أُرسِلت من بلدان الخليج، وتتركز خصوصاً في السعودية، وهي -حسب الدراسة- تعكسُ تفاقم التوترات وحملات القمع التي يمارسها النظام على السكان الشيعة هناك. وتقول الدراسة إن اللغة المعادية للشيعة أكثر شيوعاً على الإنترنت، مقارنةً مع اللغة المعادية للسنة أو المناهضة للطائفية، ويعكس ذلك وضعية الأقلية الشيعية في المنطقة، والطريقة التي يتم فيها تضخيم اللغة المعادية لهم من خلال مُستخدمين نافذين على تويتر، لديهم الملايين من الأتباع.

وتذكر الدراسة أنَّ أعمال العنف في المنطقة تؤثر على تقلبات اللغة الطائفية على الإنترنت؛ فخلال المرحلة قيد الدراسة -أي بين شهري فبراير وأغسطس- كان تدخل السعودية في اليمن، وهجوم الميليشيات الشيعية على تكريت لمحاربة "داعش"، والتفجيرات التي تمت في المساجد الشيعية في السعودية والكويت، أبرز الأحداث التي أدَّت لتضخم دراماتيكي في حجم الخطاب الطائفي على الإنترنت، ويساهم في نشر اللغة الطائفية كل من رجال الدين والمتطرفين ووسائل الإعلام وحتى النُخب الخليجية؛ وتشير مسألة إعادة التغريدات إلى أن هناك حسابات تؤثر على انتشار اللغة الطائفية سلباً وإيجاباً؛ وتشمل مؤيدي داعش ورجال دين سلفيين وأكاديميين ورجال أعمال خليجيين نافذين وميليشيات شيعية ومُواطنين عاديين؛ وحين يتغاضى رجال الدين أو النُخب عن إدانة اللغة التحريضية والمجردة من الإنسانية، أو يشجعون على استخدامها، فإنهم يعطون مصداقية للسرديات المتطرفة ويساعدونها على كسب قبول أوسع في صفوف الرأي العام.

وتشير الدراسة -وهي متوفرة على الإنترنت- إلى أنَّ مجموعة بيانات 7 ملايين تغريدة، توفرُ دليلاً بارزاً على أن حجم اللغة الطائفية يتزايد بصورة حادة، استجابةً لأحداث العنف على أرض الواقع، لا سيما في إطار رد الفعل على التدخل السعودي في اليمن، والوضع في سوريا، والاشتباكات بين الميليشيات الشيعية وتنظيم داعش في العراق، وتفجير المساجد الشيعية في منطقة الخليج؛ إلا أن الدراسة، ترى أنَّه بينما قد يبدو الأمر وكأن هذه النتائج ترسم صورة قاتمة لحالة العداء الطائفي في الوطن العربي اليوم، تشير إلى حقيقة تذبذب مستويات خطاب الكراهية المعادي للشيعة وللسنة بسرعة -على الأقل في المدى القصير- وعودتها إلى التوازن عموماً في أعقاب أحداث العنف، إلى أنَّ تصاعد العداء الطائفي قد يكون قصير الأجل، وهذا يعني أن فطرة الناس لا تزال سليمة، وأن السياسة هي التي أفسدت هذه الفطرة وكذلك "رجال الدين" أو المشايخ، وأن من يُخططون لهذه الدول -إن كان هناك أصلاً تخطيط- هم من يثيرون هذه النزاعات، لتغطية فشلهم في تحقيق التنمية في الداخل؛ فعندما تنشغل الشعوب بحروب وهمية كالحرب بين المذاهب الإسلامية أو حروب كرة القدم، فإن اهتمام الناس بأمور السياسة سيقل، ولكن هذه النظرة في العموم هي نظرة خاطئة وتُعتبر قصيرة الأجل، إذ إنَّ الاهتمام بالحروب الوهمية لن يشغل الناس عن الاهتمام بالجوع، وفي النهاية فإن سياسة الإلهاء هذه ستعود بالضرر للدول نفسها عاجلاً وآجلاً؛ ولكن المشكلة في هذا الأمر أن هناك مثقفين يُفترض أن يكون دورهم تنويرياً، إلا أنهم -للأسف- انغرسوا في هذه الحرب، وتجد أن بعض المثقفين قد نسوا كل ما نادوا به من الوطنية والوحدة والحب والوئام والتعايش، لمجرد أن الخصم من مذهب مخالف، بمعنى أن مواقف بعض المثقفين ذابت مع الانتماء المذهبي الذي نشأوا عليه، ولا بد أن أشير هنا إلى أن الانتماء بحد ذاته ليس عيباً بل هو من الفطرة، ولكن الخطأ أن يبني الإنسان موقفه من قضية ما على ضوء انتمائه المذهبي، ويُغلق عينيه عن مشاهدة الواقع كما هو، كأن يؤيد الشيعي اليمن لأن السعودية تحارب الحوثيين، أو أن يؤيد السني السعوديةَ لأنها تشن حرباً ضد الحوثيين الشيعة، أو أن يقف المرء مع بشار لأنه علوي وأن يقف الآخرون ضده لأنه حليف إيران، وقد شاهدنا مثلاً مواقف بعض العمانيين تعارض السياسة العمانية لأنها -حسب رأيهم- تختلف عن سياسة من ينتمون إليهم مذهبيًّا؛ وهذه لعمري كارثة؛ فالأوطان لا تبنى على الانتماءات المذهبية، وإنما فتنة المذاهب هي نغمة نشاز بدأت تظهر بقوة بعد الغزو الأمريكي للعراق؛ وأكبرُ خطورة على الأوطان هي عندما ينتقل خطاب الكراهية من عالم الإرهابيين والمتطرفين أو من "الشيوخ" إلى المثقفين، فتزداد السرديات الطائفية قوةً، الأمر الذي يغذي التعصب؛ وفي ظني أن على المثقف أن لا يكون مجرد تابع أقرب إلى إمعة.

والمؤلم أن تسري الطائفية في الجيل الجديد سريان الهشيم في النار، كأن يفتح بعض الشباب الخليجيين صفحة في تويتر باسم "تسلم الأيادي" يشكرون فيه الأيادي الصهيونية القذرة التي قتلت سمير القنطار، لا لشيء إنما للاختلاف المذهبي فقط؛ بدلاً من أن تحتفي به الأمة كما تفعل كل الأمم الحية مع أبطالها وشهدائها ورموزها، وهو الذي بدأ نضاله ضد الكيان الصهيوني في عمر المراهقة.

وفي ختام دراسة "ألكساندرا سيجل"، ترى أنه بينما قد تعمل أطراف فاعلة بارزة على تسريع وتيرة انتشار اللغة الطائفية؛ فإن في وسعها أيضاً أن تستخدم تأثيرها على شبكة الإنترنت وبعيداً عنها للتخفيف من آثارها، ومع أن الإعلام الاجتماعي يضخم في كثير من الأحيان الأصوات الأكثر استقطاباً، إلا أن في وسعه أيضاً توفير وسيلة قيمة للقيادات المؤثرة للتواصل العابر للطوائف.

مع أنَّ بيانات الإعلام الاجتماعي وحدها لا تعبر بشكلٍ كامل عن حالة الاحتقان الطائفي في الوطن العربي، إلا أن المعلومات الواردة في الدراسة، ترسم صورة مفصلة للطريقة التي تكتسب من خلالها السردياتُ الطائفية زخماً على المدى القصير، وكذلك الأطراف التي تسهم في انتشار خطاب الكراهية وكذلك الحوار المتسامح. ومن خلال توفير مقياس للزمن الحقيقي للغة الطائفية المتحولة في الوطن العربي، تقدم بيانات تويتر نظرة ثاقبة فريدة إلى أهم مصادر الصراعات والتطرف العنيف المزعزِعة للاستقرار التي تواجه العالم اليوم، ويبقى أن نقول بكل أسف: يبدو أن بعض دول الخليج أصبحت بؤرة كل المشاكل التي تواجه العرب، لا لشيء وإنما فقط للمال الذي تملكه، فدخلت هذه الدول في أكثر من حرب، وبالمال الذي تملكه امتلكت وسائل التكنولوجيا دون فكر؛ لذا ثارت النعرات الطائفية والمذهبية في وقت لم نرَ فيه أي دولة خليجية في مقدمة الدول التي قدمت طلبات براءة الاختراع، رغم المليارات تذهب سدى لأن الناس مشغولون بالمذاهب؛ لكن التاريخ في النهاية لن ينسى كل ذلك، بل ولن يرحم.

تعليق عبر الفيس بوك