حكمة الحياد العُماني

فؤاد أبو حجلة

يقول المثل الشعبي "إنَّ ألف عاقل لا يستطيعون إخراج حجر رماه مجنون في بئر"، وهو مثل مبالغ في التحذير من فعلة مجنون واحد يعيش بين ألف من العاقلين، لكنه لا يزيد في مبالغته عن واقع عربي يكثر فيه المجانين ويقل العاقلون، ولا تكتفي الحجارة بالاستقرار في قيعان الآبار، بل تتناثر لتسيل الدماء من الرؤوس.

في هذا الواقع المجنون، تتجلَّى ضرورة العقلانية والحكمة والحياد الإيجابي الذي تنتهجه السلطنة فيحصنها من محاولات العبث والإختراق، ويمكنها من أداء دورها السياسي في المنطقة وفي الإقليم المشتعل بالصراع.

لم تصطف السلطنة مع طرف ضد آخر، ولم تتخندق مسقط في تحالف ضد آخر، ولم تدخل في لعبة المماحكة بين الأنظمة وتصفية الحسابات السياسية التي تجري على حساب الشعوب. واختارت عُمان أن تكون على هذا النحو من الحياد، ليس هربا من استحقاقات الاصطفاف، ولكن التزاما باستحقاقات العقلانية السياسية التي تفرض كلفا أكبر بكثير من كلف الحروب.

هكذا نرى ويرى العقلاء موقف السلطنة من الحرب في سوريا وفي اليمن، وهو الموقف الذي يؤهل مسقط لأن تكون عاصمة للحلول والتسويات التي توقف نزيف الدم السوري واليمني، وهو دم عربي لا يمكن لعُمان أن تتعامل بحياد مع سفكه في الحروب.

وهكذا نرى ويرى العقلاء مسقط عاصمةً للحوار والمصالحة بين أطراف عربية وإقليمية يسعى البعض لتدويل صراعها وتأزيم مشكلاتها وإشعال نار الفتنة في مجتمعاتها.

وهكذا تظل مسقط قبلة للساعين إلى الحل في الساحتين السورية واليمنية، وفيها يبدو ممكنا العثور على مفاتيح الحلول، بعيدا عن الضغوط والانحيازات المعلنة أو الخفية التي تفشل الحوارات في عواصم أخرى.

للحياد الإيجابي استحقاقات صعبة يعرفها صانع القرار العُماني ويتحملها بإدراك كامل للمسؤولية الإنسانية والتاريخية تجاه الشقيق والصديق، وللموقف العقلاني للسلطنة استحقاقات سياسية تلبيها عُمان بهدوئها المعهود، وتؤديها بلا ضوضاء ولا ضجيج إعلامي ولا تحميل جمائل، فتقدم نموذجا مختلفا يكاد يكون متفردا في شرق أوسط لا وسطية فيه، وفي منطقة يجتاحها جنون الحرب من أقصاها إلى أدناها، وتأكل فيها الحروب أخضرها وتحرق يابسها.

لذا، يبدو منطقيًّا الرهان على رعاية عُمانية للحل في سوريا وفي اليمن أيضا، ويظل عقلانيا اختيار مسقط عاصمةً للقاء والحوار والمصالحة بين أطراف الصراع العربي، بدلا من هجرة هذه الأطراف إلى عواصم الشرق والغرب والبحث عن الحلول في سويسرا وإثيوبيا...وغيرهما من مواقع أجنبية للحوارات العربية-العربية.

لا شيء يحول دون لقاء أطراف الصراع السوري في مسقط، ولا شيء يمنع لقاء أطراف الصراع اليمني في العاصمة العُمانية، إذا خلصت النوايا، وإذا كانت لدى أطراف الصراع في البلدين رغبة حقيقية في الحل وحقن الدماء. ولا عاصمة أخرى في المنطقة أو خارجها مُؤهَّلة للعب هذا الدور لسبب بديهي وواضح يتمثل في انتفاء المصلحة العُمانية من استمرار الصراع وابتعاد الموقف العُماني عن الانحياز السياسي أو الطائفي لأي من أطراف الصراع في البلدين المنكوبين بالحرب، ولا طمع عُمانيا في عنب الشام أو بلح اليمن.

عُمان ليست عضوا دائما في مجلس الأمن الدولي، وهي لا تدعي أنها دولة عظمى، لكنها في الوقت ذاته بلد عربي يحصر جهده السياسي في الحفاظ على مصالحه الوطنية وعلى مصالح أمته؛ لذا يتميَّز بقدرة لا يمتلكها المنحازون في التعامل مع ملفات الصراع في المنطقة، وإعلاء العقل المنتمي على العصبيات الضيقة والثارات الجاهلية.

ننتظر إدراك هذا التميز العُماني من قبل أصحاب الأجندات المشبوهة الذين يشعلون الحروب في بلاد العرب، ويغلقون آبارهم بالحجارة الضالة. ونأمل بعقد جلسات للحوار في مسقط توقف سفك الدم العربي في اليمن وسوريا.

تعليق عبر الفيس بوك