تأملات وعبر

د. محمد الشعشعي

حال الدهر مليئة بالمفاجآت والتقلبات الكبرى كسنة كونيّة منذ الأزل؛ فهو لا يستقر على حال؛ لاسيّما في وقتنا الراهن الذي يسميه البعض وقت التناقضات، كل شيء فيه قابل للاختلاف عما سبق.. تغيرت قلوب البشر؛ حتى الحجر والماء والهواء لم يسلم من التغيرات..

نعيش في زمان ذهبت فيه الروح الصافية بكل معانيها وأناقتها.. ضمرت السواري وبلي ما بها من نقوش بعد ما كانت تحكي قصص حضارات ومدن خالدة.. جف ماء النهر وذبلت على ضفتيه كائنات لم تتهنّ بحلمها الوردي.. وحتى النسيم العليل الذي كان يشفي السقيم تلوّث اليوم مع تسارع إيقاع الحياة وتطورها..

انظرو إلى الحياة العصريّة وإلى البشر وإلى الماديات والمحسوبيات.. أمعنوا النظر جيدًا في متلازمة عدم شكر النعم؛ وأولها نعمة عافية البدن وتمام الصحة، ونعمة الأمن والسلام الذي يعم ربوع عمان.

فالصباح في بلادنا يحلو نوره بصوت العصافير الشجيّة وخيوط الفجر وأزهاره النديّة وأحلامه النرجسيّة؛ بعيدة عن ضجيج المدافع وأصوات البندقيّة والقنابل العنقودية.. وأسواق مطرح ونزوى والحصن وعبري لم تفقد أصالتها وأناقتها وهدؤها ومعروضاتها الغنيّة بعد، ولم تحرم من زبائنها ومرتاديها كسوقي عكاظ، والحميدية.

لا نريد أن نتحدث كثيراً عن أنفسنا بل نجعل الآخرين يقولون ما يريدون ويلاحظون مفارقات هذا الدهر العجيب، عليهم تحكيم المنطق والعقل، ومحض البرهان الصادق لمعرفة الصواب، كما أننا لا نريد أن نجرح الطرف الآخر ونجعله محرجًا ويعيش في زاوية منزوية مع نفسه فيتوهم ويرى الصواب خطأ وبالعكس، أو يتوهّم نظرية المؤامرة الأبديّة ولا يستطيع الخروج من دوامتها.. فمخيّلته ترى المسارات كلها تسير ضده بل والدنيا كلّها معاكسة الاتجاهات.. وما أكثر الاتجاهات هذه الأيام! التي اتجهت لها بعض الدول فأصبحت تسلك طريقا بعيدًا عن طريق العقل والحكمة؛ رغبة منها في إثبات وجودها وسيطرتها، وهذا الإثبات لا شك أن ثمنه غال، ويفقدها الكثير من القيم والصفات الطيّبة والأصدقاء والأحباب، ويجني شعبها ثمار ما زرعته هذه الدول إن كان خيرًا فيلقى هذا الشعب الخير أينما رحل وحل؛ وإن كان شرا فسيحصد الوبال.. وكل امرئ بما كسبت دولته رهين.

تناقضات الحياة واختلاف السياسات يقابلها تناقض الفكر، وهذا الجانب الأوسع من الحياة اليوم؛ فإذا ما تعمّقنا في التفكير فإننا ننتقل إلى عالم آخر؛ عالم اللا محسوسات أو لا محسوبيّات نبعد به بعيدًا عن الماديّات الدنيوية التي غيّرت الكثير، وأتلفت بعض الضمائر وإن كانت ميّتة أصلا ولكنّها زادتها فوق موتها تلفا.. عالم به نفكر كيف تكون الحياة أو بمعنى أدق كيف ينبغي للحياة أن تكون وما تحمله من بشر وصفات بسماتها الطاهرة، وبنقائها الصافي الزلال، وبمكنونها كأنّه اللؤلؤ والمرجان، وقد يفوق التصوّر.. نسرح بالخيال إلى السماء لكي نرى الطبيعة التي كانت عليه بلونها الصافي.. نطالع الروحيّات الصادقة حتى يكون التعبير صادقًا لوصف ما تحت السماء وما فوق الأرض.. نفتش عن التعبير السليم والدقيق في وصف الطبيعة عن أيّام زمان؛ أيّام ما كان كل شيء على فطرته.. هذه الفطرة نسمع عنها ولا نراها في البسيطة إللهم إلا في قيم التفكير المثالي الذي يصف لنا سمو المثاليّات؛ وقد يبالغ في وصفها أكثر مما هي عليه في الواقع؛ لأنّه تفكير، ونحن لنا الحريّة في أن نجعله جوهريًا.. حتى وإن تنافى مع الواقع المعاش.

تعليق عبر الفيس بوك