مرارة العمر وحصى دروبه

رحاب أبوهوشر

خرجتُ من عند الطبيب، والهواجس تدوي في رأسي. لقد نسف تشخيصه باعتلال مرارتي وامتلائها بالحصى، والضرورة الملحة والعاجلة لإجراء عملية جراحية لاستئصالها، يقينا صنعه تشبثي بالأمان، تحول مع مرور السنين إلى زهو بائس، بأنني لم أجر عملية جراحية طوال حياتي. فكيف يجرؤ الطبيب الآن على ذلك القول؟! لا بد أنَّ ثمة خطأ في تشخيصه، أو فيما اقترحه من علاج، ثم إنني كثيرا ما وضعت سيناريوهات لأمراض ومخاطر قد أتعرض لها. توقعت إصابتي في حوادث سير، أو تعرضي يدي أو رجلي لكسور، أو أن يرتفع عندي الضغط أو السكر، وكثيرا غيرها مما يحدث لآخرين حولي، ولم أفكر يوما حتى بوجود هذا العضو الصغير المسمى مرارة في جسدي. لماذا خانتني مرارتي وتلفت، وكيف غافلتني وامتلأت بالحصى؟!

يدرك الإنسان هشاشة وجوده، عند مواجهته الأولى لسؤال الموت، ومن هذا السؤال تتناسل بعد ذلك أسئلة لا تنتهي، ولا تزيد الوجود إلا هشاشة وانزلاقا. تدفع الإنسان لمقاومة رخاوة إحساسه بالأمان، ويبدأ بخداع ذاته والتحايل على مخاوفه وقلقه وارتجافات ضعفه، ليقنعها باستعداده وقدرته على التعامل مع أي طارئ قد يربك طمأنينته. يحاول أن يتمثل ما يتعرض له الآخرون، ويتوقع أشياء وأحداثا كثيرة، ليبقى في دائرة الأمان، لكن ما يحدث له يكون غالبا شيئا مختلفا تماما، لم يكن أبدا في قائمة توقعاته!

ليس للأمر علاقة بكونها عملية صغيرة أو كبيرة، أو بكون الإنسان صغير السن أو كبيرا. تعرضت لتجارب كثيرة أهم وأكثر خطورة من استئصال مرارة بالمنظار، إلا أنَّ الحياة تصفع المرء كلما غفا، توقظه على حقيقة كونه ضعيفا، يخلخله كل ثقب جديد، يفاجئه في قماشة أمانه. يعود طفلا متسائلا، يقلقه مجهول لم يختبره سابقا. كنت قلقة ومتوترة، وكنت أتساءل عن أسباب قلقي، هل كنت خائفة من الموت، بجرعة تخدير زائدة أو بخطأ جراحي، أم من معاناة ألم الجروح؟ أم من النتائج والمضاعفات؟ أم أن وقوعي في فخ تجربة جديدة، كان لا وعيي يرفضها، ثم أخرجت لسانها لقوتي وزهوي بحد ذاته، كان أكثر ما يقلقني؟!

وافقت على إجراء العملية، وبدأت الاستعداد لها فورا. أردت التحرر من القلق والخوف، ومواجهة ما عرفت أنه لا بد من مواجهته، فإن لم أجر العملية، لن يكون أمامي إلا ترقب نوبات الألم الفظيع، واحتمال انفجار المرارة وتعريض حياتي للخطر. يا للحكمة، التي لا ندركها طوعا، بل تأتينا من حيث لا نحتسب، والشجاعة التي لا نملك تجاهها خيارا حرا، وإن بدونا شجعانا!

في المستشفى، كان القلق رابضا في داخلي، يحيل عيني إلى قطعتي زجاج. لم يسبق لي دخول مستشفى إلا لزيارة مريض، والآن أستلقي على سرير في غرفة العمليات، يحيط بي طبيب التخدير وعدد من الممرضين، ويأتيني صوت الطبيب الجراح من بعيد، فتلهث أنفاسي. وحيدة تماما في مكان غريب وموحش، تفوح منه رائحة الأدوية والألم والمرض. ينهشني التوتر والعري من ادعاءات القوة، وجهد فائق أبذله للتماسك، ورغبة حادة بأن أغيب، حتى لا أرى أو أسمع أو أفكر.

صحوت من التخدير بعد العملية، فتحت عيني. السقف يدور، الأرض تدور، السرير يدور. أشهق بنفس مقطوع، يشتد الدوران. أتلفت حولي، يستبد بي الجزع، من هؤلاء المتحلقين حولي؟ ليس بينهم وجه أختي أو أخي، ليس فيهم صوت أليف. أموء مثل قطة تنغرس سكين في عنقها: لا أستطيع التنفس. يجيبني صوت معدني من بعيد: نفسك ممتاز، اطمئني. كنت جثة مشلولة بعينين مفتوحتين، كيف سقطت في هذا الجحيم؟ أين أنا؟ أفتش عن ذراعي فلا أجدهما، أفتش عن جسدي، عن صوتي، وفي داخلي وجع متوحش.

جراح الجسد، ضعف الإنسان الصارخ والمعلن، الذي لا يتيح إمكانية لافتعال القوة أو توهمها. يصبح المرء محض جسد نازف، يلهو به الألم، ويقيم في ألمه. تنشأ بينهما علاقة استثنائية، قوامها الجدل والتناقض، يصارع المرء ألمه، يتأمله ويحادثه، يحنو عليه ويكرهه، ويقضيان خلوات في الليل الطويل.

الألم طريق لإعادة اكتشاف الذات والعلاقة مع العالم، والجراح ضرورة للشفاء، والضعف واحتياج الآخرين منحنى أساسي في تطور الروح، وتهذيب صلافة القوة. عشرة أيام قضيتها في "المرارة"، أعادت لي صفاء الإحساس بهبة الحياة، تثمينها والامتنان الدائم لها، والانتباه لجمال تفاصيل كثيرة لطالما رأيتها عادية.

تعليق عبر الفيس بوك