الرَّسول قدوة الشباب

بَدْر العبري *

خلق الله تعالى الكون وفق نواميس واحدة، ووفق سنن لا تتغيَّر ولا تتبدَّل، ومن عناصر الكون هذا الإنسان الذي عظَّمه وسخر له الوجود يتمتع فيه، ويستعمره صلاحا وبناء.. قال تعالى: "الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقًا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار، وسخر لكم الشمس والقمر دآئبين وسخر لكم الليل والنهار، وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار".

ولقد وهب الله تعالى الإنسان عقلا وحواسا، أما العقل فهو نور خفي، وميزان جلي يكشف به الإنسان ما خفي، ويدرك به ما غمض عليه، ويسعى في إيجاد المقدمات وتنظيمها، ليصل إلى نتائج سليمة، تكون في خدمة هذا الإنسان نفسه.

كذلك وهب الله للإنسان حواسا يدرك بها ما حوله، ويميز بواسطتها النقائض، وعلى رأس هذه الحواس وأهمها حاستي السمع والبصر؛ لذا اعتبر القرآن الكريم من لم يعمل عقله وحواسه أقرب إلى الأنعام شبها، يكون همه في الحياة فقط التمتع الحيواني المحض دون البناء والاستعمار الإصلاحي.

ومع وجود العقل لدى الإنسان، وما وهبه الله تعالى من حواس، إلا أنه لآثار خارجية، وضباب يؤثر في إدراك الإنسان وصلاحه، ويعوق الاستنتاج السليم؛ حيث يعطي مقدمات خاطئة، ليتكون بعدها نتائج ليست سليمة، كانت النتائج إيجابية أم سلبية.

ومن هذه مثلا: النظرية الحيوانية؛ وذلك لاعتبار أن الجنس البشري هو جنس حيواني محض، وكما أن الغلبة للأقوى في عالم الغاب؛ فكذلك الغلبة للأقوى في عالم البشر، والقوة هي أصل البقاء والوجود، ونتيجة لهذا لا بأس أن تباد أمم، وتقتل شعوب لسيطرة أمم أخرى، واستعلائها في الأرض!

واعتبار القوة عنصر استفراد بالغلبة فصحيح من جهة، ولكن ليس عن طريق إبادة الأمم، وقتل الشعوب، خاصة إذا غلفت بالتعصب الجنسي، والاعتداد الكوني مقابل ذاتية الإنسان ووجوده؛ لهذا شاء الله تعالى أن ينزل كتبا تذكر الناس بالقيم العليا، والمثل النبيلة، وتكون منبر هداية وفرقان وتصحيح، كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد.

وأرسل الله تعالى مع هذه الكتب أنبياء يبدأون بأنفسهم في تطبيقها، وليكونوا قدوة لغيرهم، فقد من عليهم بالهداية الربانية، بما أنزل في قلوبهم نور الله ورحمته وآياته، ليسقط ذلك على سلوكهم فعلا وقولا، أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قومًا ليسوا بها بكافرين، أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا أسألكم عليه أجرًا إن هو إلا ذكرى للعالمين.

ومن هؤلاء الرسل وخاتمتهم محمد بن عبدالله -صلى الله عليه وسلم- فقد أجمل الله تعالى في بيان خلقه؛ حيث قال: "وإنك لعلى خلق عظيم"، وهذه الأخلاق تجسيد لكتاب الله تعالى.

والأمة اليوم -وخصوصا الشباب- بحاجة إلى تجسيد هذا الخلق العظيم إلى واقع من خلال الاتباع النبوي في الخلق والمثل العليا، فردا وجماعة، ذاتا ومجتمعا، سياسة واقتصادا وتربية.

هذا الرسول مع عظمته وجلالته، وجَّهه ربه قائلا: "فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر وأما بنعمة ربك فحدث"، فقد كان يمسح الدمعة عن أعين اليتامى، ويضع يد الرحمة في رؤوس المساكين! فحريٌّ بالشباب أن يتخذوه أسوة وقدوة، فيمدوا يد الإنفاق إلى ذوي الحاجة، ويساهموا في مؤسسات العمل المدني الفاعلة في المجتمع، وليكونوا يد خير تعطي وتبذل، ينطلقون من أنانية الذات إلى فاعلية المجتمع.

كما أنه حريٌّ بهذه الأمة أن تمسح الدموع عن آلاف اليتامى المشردين، وتضع يد الرحمة في نفوس اللاجئين، والذين يقتلهم البرد، ويفقدون أبسط حقوق الإنسان.

ومن تربية الله لنبيه: خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين، وهذا رأس الحكمة، كان به النبي نعم القدوة والأسوة، فمن آذاه في مسجده تبسم في وجهه وخاطبه بلطف!

وجاره الذي يصبحه بالشوك والأذى، كان الرسول عند مرضه أول الزائرين.

فحريٌّ بالشباب أن يكون الرسول لهم قدوة في الصفح عن المسيء، والإعراض عن الجاهلين، وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونًا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلامًا.

ومع صلة النبي بغيره، وإحسانه إلى غيره ولو كان غير مسلم، أو ليس من عشيرته وقبيلته، بينما للأسف أن تجد من بعض أفراد أمته الهجر والقطيعة لأتفه الأسباب، وكثيرا ما يحدث بين الأقارب والأرحام والجيران، حتى أصبح شعارهم: من قطعني قطعته، بينما شعاره عليه السلام: من قطعني وصلته وعفوت عنه.

والنبي -عليه السلام- لم يكن متواضعا رحيما يحمل الصفح والإحسان مع أتباعه فقط، بل حتى مع من حاربه وسبه وشتمه وآذاه وأخرجه من دياره، وسلب ماله، فقد رباه تعالى بقوله: ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين؛ ففي عام الفتح، ولقد كان أهل مكة وصفوه بأقبح الأوصاف، فقالوا عنه شاعر كذاب، ومجنون معتوه، وأنه يحب الرياسة، وطامع في الصدارة، وراغب في المال والحسناوات، فشوهوا صورته في المجالس، ولمزوه في الأسواق، واغتابوه في البيوت، وكان بينهم صادقا أمينا ردحا من الزمن!

ففي عام الفتح يدخل عليهم مكة مستغفرا مسبحا، رأسه إلى الأرض خاضعا، لم يرفع رأسه متكبرا، ولا مشى متبخترا، ولا وصف نفسه بصفات العظمة والكبرياء، أصحابه ومقربوه من ذوي الحاجة والمسكنة.

وعندما وصل إليهم، وهم في خوف ذريع، نجده يقدم ابتسامته قبل نطقه، قائلا لهم اذهبوا فأنتم الطلقاء، هناك ينشره عفوه ورحمته، ليعلن للعالم حقا: "وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين".. وهذه تربية عظيمة في تخليص القلوب من رغبة الضغينة والانتقام، بينما للأسف أن نجد حالنا السب والشتم يوجه لمن خالفنا ولو في أبسط حوار، أو أدنى خلاف، بل لم يقتصر في مجالسنا، حتى صار سمة في إعلامنا، وفي وسائل التواصل، والشبكة العالمية!

ومن التربية القرآنية للنبي -عليه الصلاة والسلام- التواضع للجميع، للصغار والكبار، للغني والفقير، للأبيض والأسود، للذكر والأنثى، والمؤمن وغير المؤمن، مما أحبه الجميع، وسكن إليه الكل، وصدق وصف الله تعالى فيه: "فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين".

وهؤلاء المنافقون الذين عاشوا بين ظهرانيه، وإن كان لا يعلمهم لأن الله وحده يعلمهم، ومع هذا لم يتجسس على أحد، ولم يكفر أحدا، وما قتل أحدا منهم، وما قاطع وهجر، وتجهم وتكبر!!! فما بال اليوم أقوام ممن يدرس قليلا من علوم الشرع، ويحفظ بعض أجزاء القرآن، فيتصور نفسه عالما نحريرا، فيتبختر على الناس، ويتصور أنه الوحيد التقي الأمين.

ومنهم من يكفر إخوانه، ويبيح الدماء في الأرض، ويجعل نفسه وصيا على العباد، فأين هؤلاء من نبي الرحمة!

ومن أعظم صفات النبي، والتي حري بالشباب أن يعظوا عليها بالنواجذ، أمر الله له بعد أربعين سنة قضاها بين أهل مكة، يأتيه الوحي قائلا: "اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم".

خطاب القراءة خطاب من الله تعالى، خاطبنا قبل أن يقول لنا صلوا، صوموا، حجوا، زكوا، قال لنا اقرأوا، ابحثوا، انظروا، سيروا في الأرض، سافروا واكتشفوا الكون، اعملوا العقل، سخروا الحواس، تفكروا في ملكوت الله، استعمروا الأرض صلاحا، ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها.

هذا هو محمد -عليه السلام- وهذه أخلاقه: رحمة وسكينة، عفو وصفح، تقوى وإصلاح، علم ومعرفة، قراءة وحساب، عدل وقانون، تواضع وإخلاص. وما كان محمد ولا دعوته ولا قرآنه: قتل وإرهاب، تطرف وغرور، تكفير وتدمير، إفساد وظلم.

فهذه القدوة العظيمة المتمثلة في القرآن تطبيقا وإنزالا منطلق جليل للشباب للسير في الحياة علما وخلقا، باطنا وظاهرا، قولا وفعلا!

* باحث وكاتب عماني

تعليق عبر الفيس بوك