صفقة مع الموت!

ليلى البلوشي

في هذه الحياة بقدر ما يكون الموت متاحًا ومجانيًا بالقدر نفسه يكون أحيانًا مستعصيًا، منيعًا، وقد يعّد غيابه مشكلة وجوديّة هائلة كما حدث مع شخصيات رواية الروائي البرتغالي خوسيه ساراماغو في روايته العجيبة "انقطاعات الموت"، حيث يتوقف الموت عن المجيء في قرية نائية دون كل القرى سواها، ما يجعل عدم قدومه في البدء خبرًا مبشرا؛ لدرء مصاب رحيله وتجنّب غياب الأحباب، لكنه مع مرور الزمن، ومع وجود كبار في السن متعبين، مع أنّات المرضى وصراخ أطفال معاقين يغدو عدم مجيء الموت عبئاً حقيقياً وفاجعة تنّذر بالدمار!

غياب الموت في أنحاء القرية النائية يجبر الأهالي على مغادرتها إلى قرى أخرى؛ كي لا ينساهم الموت ويشملهم بنهاية وجودهم في الكون، هذه القرية بلا شك كانت ستكون مطمع كثير من الباحثين عن أيقونة الخلود عبر قرون مديدة، كان الموت هاجسهم المرعب ينغّص عليهم حياتهم المُرفهّة على رأسهم جلجامش أشهر الساعين إلى الخلود!

الموت سيرة غامضة، مخيفة، تعمل كافة ثقافات العالم على محاربته، على منع حدوثه أو على تأخير ميعاده بقدر ما يملكون من قدرات بشريّة، الموت نفسه الذي يكون خاضعًا تمام الخضوع للفظتي "كن فيكون"، فحين يأذن الخالق الله -عز و جل- لا توجد أي قوة في العالم يمكن أن تردعه.

الموت الذي يخطف الكبار منهم والصغار، الذكور منهم والإناث، الموت من خواصه المهمة أنّه ليس بعنصري كما أنّه ليس بطائفي مهما كان الدين والمذهب الذي يحمله الكائن البشري لن يوقفه عن خوض اختبار الموت الدنيوي، فالموت مبهم، لا نفهمه نحن البشر لكننا نؤمن بوجوده، نوقن أنّه في كل الأحوال سيختم جرعتنا الأخيرة من الحياة شئنا أم أبينا، إنّه قدر مكتوب له موعد محدد لا يخطئه.

وعلى سيرة الموت ثمة حكاية مدهشة نشرتها صحيفة نيويورك تايمز عن عجوز فرنسية كانت تدعى جين كالمينت بلغت من العمر تسعين عاما، أصبحت امرأة وحيدة بعد أن زهق الموت روح ابنتها الوحيدة بمرض الالتهاب الرئوي كما خطف روح حفيدها الوحيد بسبب حادث مروري، فلم يبق من العائلة غيرها، عزاءها الشقة التي كانت تملكها في وسط باريس في منطقة حيوية، لم تجد جين أحدا يعيلها، وكان مدخولها الوحيد بالكاد يفي بضرورات الحياة، وقد عرف أحد المحامين وضعها الاجتماعي وكان يدعى أندريه رافراي فأراد استغلال الأمر، فعرض عليها صفقة ظنّها بأنها ستكون في صالحه لا صالحها، عرض عليها أن يدفع لها مبلغ ألفين وخمسمائة فرنك فرنسي شهريًا طيلة حياتها مقابل أن تكون الشقة من حقه بعد مماتها، فوافقت العجوز جين دون تردد خاصة بعد أن وضع كامل ضماناته عن استمراره بالإنفاق عليها ولا يمكن لأي طرف إلغاء الصفقة مهما مرّت الأعوام.

لقد اعتقد المحامي بأنّ الموت سيستأصل مستعجلا روح هذه العجوز التي بلغت من العمر التسعين، وسيكون وقتها أمامه أعوامًا طويلة؛ كي ينعم بشقتها، لكن ما حصل عكس ذلك تمامًا، فقد عاشت جين وبلغت من العمر المائة واثنين وعشرين عامًا، ومات المحامي قبلها بمرض السرطان، بينما هي امتد بها العمر واحتفظت بالشقة بعد أن دفع المحامي طيلة ثلاثين عامًا أضعاف قيمة الشقة ولم يحصل على شيء في النهاية، لقد كانت صفقته مع الموت خاسرة، خاسرة تمامًا، فمن يجرؤ على توّقع الموت ومقاضاته، من يجرؤ على اعتقاد بأن الموت سيأتي وفق مخططاتنا؟!

Ghima333@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك