مشاكيك مسقط

أحمد الرحبي

يعزو البعض انتشار مزاولة مهنة شوي المشاكيك في مدينة مسقط، نتيجة للإقبال الكبير عليها من قبل فئة العازبين من الموظفين والعاملين في مسقط القادمين من المناطق الإقليمية الأخرى للسلطنة، فهذه الأكلة تشكل لهم وجبة خفيفة ومغذية، وذات سعر مناسب في نفس الوقت، فهي في حكم الأكلات السريعة بالنسبة لهم إنّما بنكهة عمانية وبسعر شعبي، وفي الوقت ذاته باتت هذه المهنة مع الإقبال الذي تشهده من الزبائن، تشكل مشروعًا ذا جدوى تجارية يُمكن جني هامش ربح معقول عن طريقه، خاصة لمن لا دخل ولا عمل لديه؛ ليضمن له عيش حياة بعيدة عن تهديدات الفاقة.

وإذا حاولنا تصنيف المهن ذات الصفة العمانية من حيث الممارسة والدور الريادي المحلي فيها، تعتبر مهنة بيع اللحوم المشوية (المشاكيك) ومهنة قيادة سيارات الأجرة، بالإضافة إلى مهنة تعليم السياقة على رأس هذه المهن، فهي ظلت تمارس ومازالت بأيدٍ عمانيّة خالصة، فهي تعتبر من المهن العمانية الأصيلة التي بات يمارسها بعض العمانيين وهي معروفة بهم لا يشاركهم فيها أحد، فهي منذ مدة طويلة مقتصرة عليهم كمهنة عمانيّة مقتصرة على العمانيين، بلا منافسة من العمالة الوافدة الذين يكتسحون سوق العمل العماني، سواء على مستوى المهنة والحرفة المتخصصة، أو سواء على مستوى الوظائف والأعمال في القطاع الخاص، في شركاته ومؤسساته المختلفة، وإن بشكل أقل وأخف وطأة من وضع المهن والتخصصات الحرة في المحلات والورش على سبيل المثال، إذ أنّ العماني مازال يحاول في الشركات والمؤسسات بالقطاع الخاص أن يأخذ وضعه بإزاء حضور أو اكتساح كبير إذا أردنا الدقة لوظائف القطاع الخاص من الوافدين.

ولقد مثلت مهنة شي اللحم وبيعه خاصة، سبيلا لشريحة واسعة من المجتمع العماني منذ منتصف التسعينيات، لكسب العيش وتطوير دخلهم المادي، خاصة في فترة باتت لا تتوفر فيها الوظائف والأعمال التي تشكل ضمانة لدخل معيشي مضمون لبعض الشباب العماني بتلك السهولة، ولقد أبلى بعض الشباب في ممارسة هذه المهنة وصب فيها كل جهده وخبرته، إرضاء للزبائن والمستهلكين والذين هم أيضًا يعتبرون أو يشكلون ظاهرة لافتة تعكس حالة إقبال ورواج جيّد لهذه النوعيّة من الطعام الذي يعتبر طبقًا عمانيًا لذيذًا لم يعد التلذذ به مقتصرًا على مناسبات الأعياد ومناسبات حفلات وعزائم المشاوي العائلية تلك التي تقام وسط لمة الأصدقاء في الأماكن المفتوحة خاصة في الشهور الشتوية واعتدال حرارة الجو في فصل الشتاء.

فعلى مستوى مدينة مسقط نجد بيع المشاكيك ينتشر كممارسة وكمهنة تقدم اللحم المشوي على نار الفحم مع المتبلات ونكهة التمر الهندي، على جانب معظم الشوارع الداخلية من أنحاء المدينة، مع إقبال منقطع النظير عليها من الزبائن والمستهلكين والذين جلهم يكونون من العمانيين، إذ لدى عبورك في بعض الشوارع في مناطق مسقط السكنية، دائمًا ما تلاحظ من بعيد خيط دخان أبيض وحوله تجمع كبير من السيّارات يذكرك بمخيّمات النار في العصور القديمة لكنّها في حالتنا هي مقرونة بالسيارة التي هي الرمز المعاصر الأول لهذا العصر.

ويجب ألا ننكر بأن الشعب العماني ككل الشعوب الرعوية والزراعية محب لأكل اللحوم - لحم الضأن والبقر والمواشي- ويستهلكها بإسراف في موائده، فاللحوم تعتبر عماد طعامه وفخر مائدته، خاصة في العزائم والحفلات المرتبطة بمناسباته الاجتماعية، أمّا تقديم هذه اللحوم المشوية على نار الفحم، فهي تشكل إغراء لا يمكن مقاومته من معظم أفراد الشعب العماني، حيث تعتبر وجبة المشاكيك الوجبة العمانية الثانية بعد الشواء المتبل بالبهارات الحادة والذي يقتصر أكله كطبق عماني بمناسبة العيدين - عيد الفطر وعيد الحج- والذي تعتمد تقنية تحضيره من خلال شيه داخل تنور في باطن الأرض ودفنه لمدة يوم كامل أو أكثر، أمّا المشاكيك فلسهولة تحضيرها التي تعتمد على تعريض قطع اللحم التي تشك في أعواد خشبية، لنار الفحم لدقائق في مشاو مستطيلة من الحديد أو القصدير، تعتبر أكثر إقبالا عليها، فهي تستهلك بتلذذ وتشكل وجبة لكل العمانيين يقصدون بشكل يكاد يكون يوميا أماكن تحضيرها، برغم أنّ أماكن التحضير هذه تفتقد في غالبيتها لمعايير النظافة والسلامة الصحيّة، حيث يتم تحضير المشاكيك في أماكن مفتوحة على قارعة الطرق معرّضة للغبار والأتربة المتطايرة والذباب والحشرات، هذا إلى جانب عدم الضمانة الأكيدة لسلامة اللحوم المستخدمة ومدى مطابقتها للمعايير الصحية والطزاجة والجودة التي يجب أن تتوفر في أي مادة غذائية تقدم للاستهلاك العام، وهو جانب من الوضع الشائك بالنسبة لمزاولة مهنة بيع المشاكيك، إذ بوضعها المرتجل هذا من الصعوبة إخضاعها لإجراءات الرقابة الصحيّة وسلامة الأغذية كما هو متبع بالنسبة للمطاعم ومحلات بيع الأغذية التي تعتبر لها وجود قانوني وهويّة اعتبارية إذا جازت العبارة يخضعها للمساءلة وللتفتيش الصحي الدوري، وهو الأمر الذي تنبهت إليه بلدية مسقط كجهة مسؤولة بشكل مباشر عن النظافة والصحة الغذائية مبكرًا، فقامت منذ البداية بتخصيص أماكن أو محلات في بعض الأسواق العامة بولايات مدينة مسقط، لبيع المشاكيك تخضع تحت إشراف البلدية الصحي؛ الأمر الذي يوفر ضمانة للمستهلك من حيث جودة المنتج الغذائي المقدم وسلامته، لكن يبقى ما قامت به بلدية مسقط حلا جزئي لا يعالج المشكلة من جذورها، خاصة مع استفحال هذه الظاهرة من خلال كثرة الممارسين لهذه المهنة سواء من يسعون لتطوير دخلهم إلى جانب وظيفة دنيا لا تحقق طموحات دخل جيد، أو الشباب العماني الذي يسعى جاهدا لامتلاك مهنة شريفة يعتاش عليها خاصة في حالة انسداد الأفق في الحصول على وظيفة كريمة في هذه الفترة التي يشهد فيها سوق العمل العماني تزاحما من الشباب في البحث عن وظيفة.

وللتصدي لهذه المشكلة وبحث حلول لها؛ يجب على بلدية مسقط ألا تعتمد حلولا نمطيّة وإنما اعتماد حل إبداعي يحفظ حقوق شريحة ممتهني بيع المشاكيك بمزاولة مهنتهم تحت رقابة البلدية الصحية وإشرافها المباشر، طالما أنها تجد كل هذا الإقبال المتزايد من الزبائن والمستهلكين من العمانيين الذين يرتبطون استطعامًا وتلذذا بأكلة المشاكيك بشكل شعبي كما أسلفنا، ومن الحلول السهلة لهذه المشكلة مثلا تخصيص أكشاك خاصة أو سيّارات متنقلة مصممة على شكل أكشاك تعكس المظهر الحضاري للمدينة، مما يساعد على تقديم هذه المهنة بثوب سياحي وبواجهة حضاريّة عمانيّة صرفة ويخلق نوعًا من الإقبال السياحي على طبق أو أكلة المشاكيك كمنتج غذائي عماني من صميم الحضارة العمانية في نكهتها تضوع روائح زكية من العادات والممارسات الاجتماعية الغذائية؛ اختمرت طوال قرون من التاريخ العماني المجيد المسطور على ثرى هذه الأرض الغالية.

تعليق عبر الفيس بوك