رفيف يا ابنة الجنة...!

عائشة البلوشيَّة

لمن أوجِّه النعي يا رفيف؟ ذهبتُ إلى مطبخِك الصغير الذي تلهين به، علِّي أجدُ العزاء والسلوى لفؤاد خاوٍ، وتأمَّلتُ أدواته المركونة فانفطر قلبي، ودرت ببصري لتصافح عيني حقيبتك المدرسية، وأسمع صوت دفاترك تناديك لحل الواجبات؛ ولمن أوجه العزاء؟ لكرسي صفك الأول الأساسي؟ أم لمعلماتك؟ أم لمديرة مدرستك؟ أم لزملائك الأطفال في صفِّك الذين لن يتسوعبوا ببرائهم معنى الموت الذي اختصك من بينهم؟! هل أنعيك إلى كل موقع داسته قدماك الصغير؟ أم أنعيك إلى كل إبرة مغذٍّ أو دم دخلت أوردتك؟ هل أعزي ممرضاتك اللائي أحببنك لصبرك الجميل وتحملك للوخز والألم؟ لمن أنعيك؟! للكون الذي أحاط بك وأحبك؟!

رفيف الحبيبة بلسم في هيئة بشر، ولدت في تأريخ استثنائي السادس من الشهر السادس من العام الميلادي 2009، وشاء الله تعالى أن تكون مصابة بالمرض الوراثي الثلاسيميا بيتا، ومنذ بلوغها سن الثالثة كانت بكل صبر وأناة ترافق والدتها كل ثلاثة أسابيع للحصول على وحدة الدم المقررة لها من قبل الطبيب، والتي قد تصل إلى وحدتين في بعض الأحيان.. طفلة محبة مطيعة حنونة تهتم بأدق تفاصيل هندامها، قالت ﻷمها "أريد أن أعمل "ملكة" عندما أكبر"، فضحكت والدتها من باب الدعابة؛ ﻷنها رأت أن هذا الحلم مستحيلا، تركض كل صباح نحو شجيرات الورد والياسمين لتجمع أزهارها وتهديها ﻷمها، غير آبهة بالطين الذي يلطِّخ حذاء المدرسة، وعند تقريع أمها لها، ببراءة تجيب "إنني أحب أن أقطف لك الورد كل صباح".

يوم الثلاثاء باغتتها نوبة قيء دموي حاد؛ فركضت والدتها مسرعة إلى مستشفى صحار، بقلب يكاد ينخلع هلعًا على طفلتها؛ لتبدأ مرحلة الفحوصات لمعرفة السبب، وتراصف إسهال دموي مع ذلك القيء، لتنقل على الفور إلى قسم العناية المركزة، وعند تكرار نوبة القيء والإسهال، تواصلوا مع المستشفى السلطاني لنقلها لعمل منظار للمعدة لمعرفة سبب النزيف، ولكن الأمور كانت تتطوَّر بسرعة عجيبة، والأحداث تتسارع وكأنها في سباق مع اللحظة، لتظهر ارتفاعا في وظائف الكبد والصفار في الدم، وازدادت مرات النزيف، وبدأوا في وضع أكياس الدم، الواحدة تلو الأخرى، وبدأ ضغط الدم في الانخفاض والتأرجح، ووضعت المحاليل الملحية، والحق يقال أنهم قدموا كل ما يمكن للبشر أن يقدمه، ولكن هناك قدر يفوق قدرات البشر، وظلت تلك الليلة على تلك الحال، حتى وضعوها تحت التنفس الاصطناعي، بعد تخديرها بالطبع، لكن كلما داهمتها نوبة القيء والإسهال الدموي تفتح عينيها المتوسلتين وتنظر إليَّ لتجدني أبتسم لها وأقول لها: "رفيف قوية وشاطرة"، ليستغرب الطبيب من وعيها رغم التخدير، فحصلت على 11 وحدة دم و11 وحدة FFB و3 وحدات صفائح دموية في أقل من 24 ساعة، والطاقم الطبي يركض يمنة ويسرة بين المعمل وبين العناية المركزة، وعندما شارف الصباح على الإشراق قالوا لنا سنحتاج دمًا من المتبرعين؛ ﻷن نسبة الهيموجلوبين وصلت 3، فنشطت مواقع التواصل الاجتماعي للتبرع بفصيلة "B موجب"، وعند تمام السابعة صباحا امتلأ بنك الدم بالمتبرعين، وهنا لي وقفة خجلى أمام هذا المد الإنساني العظيم، فكلمات الشكر قليلة في حق كل من تقدم وتبرع، وإن كانت ساعات قليلة لكنكم جعلتمونا نسعد بوجودها بيننا.

وجاء القرار الحاسم: هل ستستمر على هذه الحال؟ أم نسلك درب الجراحة لسبر أغوار ذلك الجسد المنهك، والبحث عن سبب النزيف؟ فجاء القرار من والديها بالتوكل على الله والموافقة على الجراحة، وودعَّناها عند مدخل غرفة العمليات في التاسعة صباحا لتخرج إلينا في الثالثة عصرا، وقد استقرَّ الضغط وتوقف نزيف الجرح العميق في الإثنى عشر بالخياطة، مع كلمة (لكن..) فستة ليترات من الدم ليست أمرًا يسيرًا يستقبله جسم طفلة لا تزن أكثر من 20 كيلوجراما!!!!

وفي السابعة من صباح يوم الخميس، أعلن قلبها الصغير ضعفه؛ فتوقف معلنا أنه لا يستطيع المضي دون عَوْن، فبدأت مرحلة الإنعاش؛ وذلك الجسد ينتفض مع كل صدمة، والقلب صامد لا يتحرك، وبعد نصف ساعة أعلن الطبيب أن رفيف أسلمت الروح لبارئها، لترحل رفيف عن دنيانا، إلى حيث الخلود في نعيم مقيم، وتصبح في كفالة سيدنا إبراهيم عليه السلام، وتكون أعظم هدية من الله -عزَّ وجل- في يوم ميلاد أمها، بأن ضمن الله لفلذة كبدها الجنة، وعند سماع الخبر سجدت أمها شاكرة ربها على ما أعطاها وما أخذ منها، واحتسبتها شفيعة لديه، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

باسم والديها، وباسمي، وباسم كل من أحب رفيف، أتقدم بالشكر وعميق الامتنان إلى من تبرَّع بقطرة من دمه، ولطاقم أطباء وممرضات وممرضي مستشفى صحار، وأخص بالشكر د.نسيم وملاكي الرحمة مها وعائشة، على ما لمسناه من حرص رائع واهتمام صادق يفوق المهنة ويتجاوزها إلى أعلى درجات الإنسانية، من لم يشكر العباد لم يشكر الله، ورفيف ابنة الجنة تشكركم جميعا على كل محاولاتكم وجهودكم التي بذلتموها، ولكن ربها أرادها أن تكون في أفضل وأجمل وأغلى مكان يهبه تعالى لمن أراد من عباده، ستظلين وسما جميلا في القلب يا ابنتي الغالية رفيف.

----------------------------

توقيع:
"نبكي لفقد "رفيفَ".. تسقطُ وردةٌ حتى البراءةُ قد بكتْكِ "رفيفُ"..."! جزء من نَعْي مدرسة مجز الصغرى لتلميذتها النجيبة رفيف.

تعليق عبر الفيس بوك