وطفلةٌ نامت على قارعة الطريق!

هلال الزَّيدي *

كان يجلس في ذلك الركن يستحضر الفكرة حتى تنساق بين أصابعه لتصبح نسقًا مقروءًا، لكنها تأبى الظهور والبروز والتجلي؛ وذلك لضيق الأفق الذي يستفز الفكر ليمخر عباب الواقع، أو أنه لتطابق الواقع وتشابهه مع أحداثه وقصصه المبنية دائما على مفعول به ومجرور إلى غياهب اللاحياة.. لكنه يناوش فكره بين الفينة والأخرى ليتمسك بلُب القضية، وبينما يحاول يجرها إلى ساحة الوغى تأتيه رسائل الشوق والغرام منسابة مفجِّرة لديه بأن أحدهم يشتاق إليه كثر شوقه وأكثر. فهي أمارات الشوق واللهفة كما قال أسير الشوق في قصيدة "اختلفنا".. "كيف نخفي حبنا والـشوق فاضح.. وفي ملامحنا من اللهفة ملامح.. عاشقين ونبضنا طفل حنون لو تزاعلنا يسامح.. والهوى شي مقدر اختلفنا من يحب الثاني أكثر"، تلك الرسالة توجه له سؤال وجيه، ماذا تفعل: فيرد أحاول استجماع شتات الفكرة لأكتب شيئا تقرأينه يا سيدتي، فتسأله هل لبست معطفك ليدفئك من البرد؟ يجيبها: لا أحتاجه لأن الأجواء جميله.. تعقّب وترسل له: أخاف عليك أن تمرض.. هنا يتوقف برهة وينظر إلى الجالسين الذين يحتسون القهوة، وأنغام القنوات الفضائية تتراقص على وقع الموسيقى.. ليردِّد: سمعتم أيها الغارقون في لحظاتكم، إنها تخافُ عليَّ، لكن من يخاف على تلك التي توسّدت الرصيف والتحفت السماء ونخر جسدها البرد.. تذكر تلك الطفلة ووجهها البريء.. همس لنفسه يا للوقاحة كيف أصبحت الحياة جميلة وهناك من لا يتذوق طعمها ولا يشعر بدفئها، ولا أحد يسأل عنها.. كل في هواه منغمس.

على قارعة الرصيف تنزوي طفلة تلطَّخت بغبار الغربة والحسرة، فأزكمها البارود المتطاير من زناد الجشع والتخلف، فضاقت بها الأرض بما رحبت.. وغلبها النعاس وهي جالسة تبحث عن قوت يومها ببيعها الحلوى.. سمعتم أيها السادة: طفلة تبيع الحلوى، ومنذ متى يبيع الأطفال الحلوى؟ يا لهذه الحلوى التي تكون طريقا للقمة تسد سغبات الجوع..! الأطفال يا أيها القوم لا يقاومون الحلوى لأنها تأكلهم قبل أن يأكلونها فكيف وهم يبيعونها، يا لهذه الرعونة المفرطة في القسوة... هل سمعتِ سيدتي؟ طفلة لا تجد معطفا يدفئها من برد الشتاء القارس، ولا تتلذ بطعم الحلوى، لأنها تبيعه من أجل أن تقتات عليه، وأنت تخافين عليَّ من البرد. ألا تشعرين بالتناقض؟ أما أنا فأشعر بوخز التشرذم والانحطاط في هذا العالم الذي يتآلف ويتجمع ليشهر تحالفه باسم الدين، وهناك بين ظهرانيهم طفلة تتعرى وتجوع وتنتهي إلى شوارع الوحشة واللإنسانية.

أما هناك وبين أثير فضائياتهم يتراقص الرجال قبل النساء على أنغام المهزلة التي ذهبت بقيم الرجولة في هذا الامتداد المتناقض مع كل ما يحيط به، فشرَّعوا أسلحتهم في وجه تلك الطفلة لأنها تحمل الحلوى لتبيعها، بينما تستعرض نساؤهم آخر صرعات الموضة من العباءة المفتوحة على خصر يبحث عن الرشاقة مع اشتداد المقدمات والمؤخرات التي تستخدم كثكنات للقصف وتجييش الجيوش في معارك لا يعرف من هو الخاسر فيها.

هنا تنبري إشارات استفزاز تصدم الذاكرة والعقل الجانح إلى العويل والبكاء على أطلال حياة كانت يوما هناك وهنا، فتأتي نونية أبو البقاء الرندي في رثائه للأندلس عندما سقطت في يد إسبانيا النصرانية وأجبروا المسلمين على التنصّر أو الهجرة أو القتل، تأتيه هذه المرثية بشكل عارض لتمزق أصوات الملاهي ورقص الجواري، فتقدم تعزية منذ مئات وآلاف السنين عندما بكى على أطلال الأندلس وأمجادها ليصبح الخصام بين ريال مدرين وبرشلونه على أشده، ويهتف الجمع بمجد برشلونه.. يا لها من أمجاد تتشابه مع حال تلك الطفلة.." وطفلة مثل حسنِ الشمس إذ طلعت.. كأنما ياقوتٌ ومرجانُ.. يقودُها العلجُ للمكروه مكرهة.. والعين باكية والقلبُ حيرانُ.. لمثل هذا يذوبُ القلبُ من كمدٍ.. إن كان في القلبِ إسلامٌ وإيمانُ".

تلك النونية تباكت على مجد كان للإسلام فيه راية وصواري وصولجان، أما اليوم نتباكى على وطن أقرته الأعراف والقوانين الدولية بأنه إرث لعروبة مضت، لتنزح الطفولة والكهولة ونون النسوة خارج حاشية النص فتسقط مغشية تبحث عن وطن تأوي إليه.. لتأتي "ميركل" وتذكرنا بالأوطان والمساكين.

فلو كان اليوم أبو البقاء الرندي بيننا، فكم من نونية نحتاج إليها لتعود إلينا العروبة الممزقة بين تحالف وآخر.. إنه الوجع الذي انغمس في جسد الطفولة فمات الإحساس.. فلا برد ولا وطن.. إنه الضياع المتنامي في ذلك الجسد.. فهل ما زلتِ تخافين عليّ من البرد.. لا أستطيع أن أرد عليك إلا عبر قصيدة نزار قباني "جسمك خارطتي" فاختاري منها ما شئتِ: "وجعي قافلةٌ.. أرسلها خلفاءُ الشامِ.. إلى الصينِ في القرنِ السَّابعِ للميلاد وضاعت في فم تَنّين عصفورةَ قلبي، نيساني يا رَمل البحرِ، ويا غاباتِ الزيتونِ يا طعمَ الثلج، وطعمَ النار.. ونكهةَ شكي، وكفري أشعُرُ بالخوف من المجهولِ.. فآويني أشعرُ بالخوفِ من الظلماء.. فضُميني أشعرُ بالبردِ.. فغطيني احكي لي قصصاً للأطفال وظلّي قربي.. غنِّيني.. فأنا من بدءِ التكوينِ أبحثُ عن وطنٍ لجبيني".

نامتْ الطفلة علَّها تحلم بأن تأكل الحلوى وتلعب لعب الأطفال البريئة بعيدا عن مخلفات الحروب وقذائف التحالفات.. ومع نومها بدأت خشبة الهرج والمرج تفتح الستاره لنضحك ونُضحك الآخرين علينا.

---------------------------------

همسة:

أيَّتها السيدة الثورية: البرد قارس إن كانت مشاعرك فاترة متخشبة.. أما إذا كانت متوهجة ستدفئني.. لذا لا أحتاج إلى معطف؛ لأن ثوران اشتياقك يجرفني إلى الواقع المبتعد عن الابتذال.. والطفلة المتوسدة للرصيف تعايشت مع الشارع فمدها بالدفئ، ولا ضير في حياتها، وكما للبيت رب يحميه، فإن للطفلة ربًّا يحفظها ويحميها.

 

*كاتبٌ وإعلامي

abuzaidi2007@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك