حكمة إنسانية بعيدًا عن التسييس والأنانية.. تلك هي السياسة القابوسيّة

آمال الهرماسية

تتعالى الأصوات وتتتالى المواقف، وتأتي الظروف تترى، وتتداخل الآراء تحكمها العاطفة وتجرها المصلحة، وتقودها الأهواء، وتبلورها السياسات؛ فنتلفت يمنة ويسرة لنجد أنفسنا نحاط بركام الضحايا وتخبّط السياسات ووميض الشعارات وضياع الإنسانية وتمزق العروبة.

في لحظات اليأس يلفنا ضياع الأمان وتسري فينا مرارة المشهد ويرسخ في أذهاننا شتات الغد وبعثرة الساعة ومرارة الأمس، فيتداخل الرشد فينا ويتخبط ثبات الموقف ليستوطن داخلنا انعدام الثقة في الحاكم قبل المحكوم، وفي العاقل قبل المهزوز، وفي السياسة والمتسيسين وفي الجار والصديق والأخ والقريب..

تلك أوضاع باتت تؤرق أمننا، وتشغل يومنا، وتقض مضاجعنا مسميات لم نعد ندرك عمق مأساتها وخطورة معاناتها، وسوء اعتيادها: إرهاب، طائفية، عدوان، حرب، ضحايا، شضايا، واندثار وجدان، صخب وتبدد أمان؛ ركنّا إليه حتى بات لا يحرك فينا غير بعض الاستياء، ومرارة لم تعد غير عابرة لا تتعدى اللحظة، ولا تتخطى حدود الزمان الحاضر الآني.. مرارة لحظات تنسينا سوادها وخطورتها بلادة الشعور وتبلد الإحساس، وركاكة التفكير وضبابية النظرة، فلا نحن وحدنا النداء وأوقفنا سفك الدماء، ولا نحن صوبنا القرار ورجحنا منطق عدم الإصرار، ولا نحن أُلهمنا رشد المبدأ وحكمة القيادة وأنقذنا البشرية وكرامة الأوطان؛ بل إننا أصبحنا نرتشف فناجين قهوتنا على مشاهد الدمار، ونتلذذ بطيب قُوتنا على أصوات الفناء، ونتسامر في ليلنا على أخبار الوفاة.

ولكن ونحن نرى الضياع يعم بين كومات الغبار وشتات الأفكار يلوح في الكون بصيص من النور، يخترق هذه المتاهات، وبياض يبدد الظلمات، ونقاء يبعث فينا وفي العالم من حولنا أمل البقاء، ووعد صادق بغدٍ يلفه الصفاء وحكمة تنقذنا من مرارة الازدراء في قلب المتاهة، وفي عمق المأساة يأتي رجل حكيم واثق الخطوة، قوي الإيمان لم تدنس سياسته مصالح الاستيطان، ولم تعكر صفو سريرته مطامع الحكام، ولم تغيّر مبادئه تيارات رداءة هذا الزمان.. رجل سيخط التاريخ اسمه بأحرف من ذهب؛ بعيدا عن حصد الأمجاد وضوضاء الإعلام، وأنوار الشهرة وصداح الشعارات.. رجل لا موقف ولا مبدأ ولا سياسة تحكم قراراته غير إنسانية أفاضت على العالم من حوله؛ لتنشر السلام وتستنكر الآثام.. توجهها حكمة حباه الله بها في زمن تخبّطت فيه العقول وعمت فيه البصائر قبل الأبصار.

ففي سنة ١٩٧٧حين اضطر السادات في مصر لتوقيع اتفاقية كامب ديفد مع إسرائيل متمثلة في شخص مناحيم رئيس وزراء إسرائيل وبإشراف الرئيس الأمريكي جيمي كارتر من أجل برهة سلام يعيد فيها ترميم ما تبقى من البنية التحتية التي أنهكتها الحروب والمناورات والصواريخ والقنابل وكثرة الهجمات اعتبرت كل الدول العربية تلك الاتفاقية خيانة للقضيّة الفلسطينية، وتتالت القرارات ضد مصر، فسحبت جامعة الدول العربية وانتقل مقرها إلى تونس، وتمّ سحب جميع الأرصدة العربيّة من البنك المركزي المصري؛ ممازاد أزمة الجمهوريّة المصرية التي كانت على شفا حفرة من الانهيار الاقتصادي، وتم تعليق كافة المساعدات الاقتصادية لمصر لأجل غير مسمى فباتت في عزلة عن شقيقاتها من الدول العربية، وضاق عليها الخناق وقتر فيها العيش؛ حينها ظهر التصريح التاريخي لصاحب الجلالة السلطان قابوس، معلنا بكل ثقة مصر لا تقاطع ولا تعزل ولا تموت بسبب موقفها مؤيدًا القرار المصري، معتبرا إيّاه سياسة خاصة لسيادة مستقلة من أجل حماية مصالح دولة عربية شقيقة، واستمر بذلك دعمه السياسي والاقتصادي اللامحدود لمصر طيلة المقاطعة التي دامت عشر سنوات من ١٩٧٩ إلى ١٩٨٩م.

ومن الملف النووي الإيراني مرورا بالملف السوري ووصولا إلى قضية اليمن نرى سياسة قابوس بل حكمته لا تحيد أبدا عن جادة الموقف الذي مبدؤه الإنسانية، وهدفه السلام، ووسيلته الحوار، ومحوره الكائن الإنسان؛ غير عابئ بمن قال اليوم "كيف ولِمَ؟" فغدًا سيقول "صدق وللرشد اهتدى" غير مبال بضجيج وصخب من لم يدرك اليوم صواب الطريق فغدا ستصحو الأمة على ركام رفات أبنائها الذين ذهبت حياتهم سدى من أجل العزة بإثم القرار المتسرع المجحف والموشح بدماء الشهداء الأبرياء، والمبطن بمصالح مزعومة لم تحمها الحروب بل هتكتها وزادت طينها بلة..

ليست الإنسانية الدبلوماسيّة القابوسيّة شعارا يطلق أو كلاما يقال أو تصاريح تتلا هنا وهناك؛ وإنما هي مواقف نبيلة تحتضن، وتمد يد العون وتنشر الخير هنا وهناك، فتفتح صدرها رحبا لاتفاقيات السلام من أجل سوريا كما فعلت من أجل إيران، وتفتح حدودها كرمًا لضحايا الحرب باليمن بل وأكبر مستشفياتها المرجعية لاستقبال المصابين دون تفرقة بين هذا وذاك لا عزاء في ذلك غير حسن الجوار ومبدأ المحبة والرحمة وصدق الاحتضان.

فليس بالغريب تميّز رجل السلام بحصوله على جائزة السلام الدوليّة سنة ١٩٩٨م كما حصل على جائزة السلام من الجمعية الدولية الروسيّة.. وليس بالغريب أن تحتل السلطنة لسنتين متتاليتين الترتيب الأول في معدل السلم والاستقرار ضمن الدول العربية وذلك وفق مؤشر السلام العالمي "جلوبل بيس اندكس global peace index" لعام ٢٠٠٨م.

وليس بغير المتوقع أن تحصل السلطنة على جائزة السلام البيئية في العام ٢٠٠٧م ممنوحة من مركز التعاون الأوروبي العربي على إثر تعدد مواقفها من أجل نشر السلام وحفظ الأمان في المنطقة.. فيا من تتساءل عن المواقف القابوسية لسلطنة عمان لا تجهد نفسك بالتساؤل؛ فالأمر كله يكمن في أن تستحضر الإنسانية بما تحمله من معان سامية وراقية؛ كالمحبة والسلم والسلام ومبدأ حب لأخيك ما تحبه لنفسك والكرم واحترام الجار وتوقير الكبير وقلة الضجيج والتواضع والاعتزاز بالله وحده؛ فمن اعتز بغير الله ذل؛ كل هذا متوّج بالحكمة والرصانة في القول والفعل، فلا مشاحنات ولا بغضاء ولا تسرع في الرد، بل لا رد لمن لا يرتقي للرد، والمضي على ثبات الخطوة ورجاحة العقل واحترام السيادة، وعدم التدخل في شؤون الآخرين، والعمل في صمت ورويّة، وعدم التأثر إلا بما يصدح حجة وبرهانا وسداد رأي..

تلك هي الدبلوماسيّة في عمان ملخصة في مواقف لكل موقف بحور من العبر والدروس فهل من معتبر؟

وللتاريخ وحده يترك أمر الحكم والتحكيم، والتاريخ وحده هو الذي سيثبت أن العقل والحكمة والإنسانية لو كانت مذهبا فاعتنقه القادة والحكام لازهرت الأرض من شرقها إلى غربها خيرا وحبا وسلاما ولو اعتنق العالم الفكر القابوسي للفهم الصفاء وغشيهم الأمن ورغدت شعوبهم ترفل في ثوب الاستقرار، ولتكاتفت الجهود من أجل الأصلح والأبقى من أجل العيش الشريف ومستقبل الأجيال وأداء الأمانات..

طوبى لوطن تشبّع فكرًا قابوسيًا فازدهر وتهنأ عيشه واطمأنت النفوس إليه حتى بات وجهة الضائعين وأمان المستنفرين، وآمال المتطلعين لربيع دائم لا تشوبه دماء المستضعفين ولا تزهق فيه أرواح الأبناء والوافدين.. طوبى لنا بك سيدي فنحن على عهدك باقون وعلى خطاك سائرون.

تعليق عبر الفيس بوك