خطاب الكراهية

فيصل الحضرمي

شاهدت قبل أسابيع قليلة مقتطفاً من أحد اللقاءات التي درج مركز الحوار الوطني السعودي على تنظيمها، وفيه يطرح الكاتب السعودي زهير كتبي وجهة نظره حول ثقافة احترام الآخر في بلاده. أدهشني المقطع لأنني لم أتوقع أن يجري في لقاء رسمي في منطقتنا الإدلاء بآراء صريحة تجهر بالنقد الجريء، الذي يلسع مناطق حساسة في جسد المجتمع. تحدث كتبي عن التحقير المتبادل بين أبناء الوطن الواحد، والحط من قيمة بعضهم البعض على أسس قبلية ومناطقية، وعن تكفير أتباع المذاهب الأخرى المخالفة، أو الانتقاص من معتقداتهم و التشكيك فيها، وعن الخطاب العدواني الذي تشنه حناجر الخطباء وآلة الإعلام ضد اليهود والنصارى والصهاينة، وعن ازدحام الكتب المدرسية بمثل هذه الأمور بما يتصادم مع الغاية النبيلة التي وضعت لأجلها هذه الكتب والمتمثلة في خلق وعي سليم عقلاني لا انفعالي لدى الناشئة، و كيف أنّ كل هذه العوامل المذكورة ساهمت بعد عقود من إغفالها والسكوت عنها في بذر الكراهية في نفوس الناس تجاه كل ما هو مختلف، وتجاه كل من هو في حكم "الآخر".

اليوم، ونحن نغرق في أخبار الإرهاب، كما تغرق المنطقة في دماء ضحايا الإرهابيين، يغدو الحديث عن الكراهية، وعن الخطاب الموصل إليها، وعن إفرازاتها وعواقبها، حديثاً ذا قيمة قصوى في كل الدول التي يحيق بها خطر التطرف. من أين أتى الإرهابيون؟ هل هم أناس منفتحون على الرأي المختلف؟ هل يتقبلون من لا يتبع ملتهم ويقبلون بالتعايش معه تعايشاً قائماً على المساواة التامة؟ هل يؤمنون بثقافة احترام الآخر؟ هل يؤمنون بالتسامح؟ هذه الأسئلة جميعها لا تبحث عن الجواب البديهي بالنفي، بقدر ما تريد أن تلقي الضوء على حقيقة أن انعدام التسامح وغياب ثقافة احترام الآخر وانغلاق الفكر أمام الفكرة المغايرة، هي كلها سمات أساسية عند المتطرفين، وهي في التحليل الأخير مجموعة مرادفات، أو تمظهرات، لمفردة "الكراهية".

المقطع المصور الذي أتيت على ذكره جعلني أفكر بواقعنا في عمان، وبالفروقات والتشابهات التي تميزنا أو تجمعنا ببقية مجتمعات المنطقة فيما يخص خطاب الكراهية. ربما يقول قائل أن الحال عندنا ليست ببؤس الحال عند غيرنا، و مع ذلك فليست النار وحدها من يتطلب التدخل العاجل ما دام "معظم النار من مستصغر الشرر". الشرارة هي الأخرى تستوجب منا التفطن و محاولة قطع الطريق عليها قبل أن تتطور الأمور باتجاه الأسوء. ما يدفعني لقول ذلك هو بعض المشاهدات التي لحظتها بنفسي و التي تشي بوجود بوادر هذا النوع من الخطابات عندنا أو بتسربه إلى مجتمعنا عبر وسائل الإعلام العابرة للحدود.

فمعلوم مثلاً أن القنوات الدينية الطائفية موجودة في كل منزل وهي تبث سمومها بكل أريحية في سامعة المشاهدين، وليس هناك ما يمكن فعله ما دامت للإنسان الحرية الكاملة في مشاهدة ما يحلو له بين جدران منزله، وما دامت الأفكار المتطرفة التي يقع تحت تأثيرها غير آتية من مصدر محلي يمكن مساءلته ومحاصرة طرحه الهدام. ولكن أن تذهب إلى إحدى المستشفيات أو المراكز الصحية، و يداهمك صوت قادم من التلفاز يدعو على اليهود و النصارى بالويل و الثبور و اللعنات، فهو أمر يثير الاستغراب، لأنه لا يليق أن يسمح بهكذا خطاب في مؤسسة تابعة للدولة لديها كامل الصلاحيات في الحفاظ على المناخ العام خالياً مماً يثير النزاعات و الخصومات و الأحقاد، ومسؤولة في المقام الأول عن تقديم الرعاية الصحية للإنسان أياً كان، وتعزيز الوعي الصحي لديه، لا عن إمطار "الآخر" بوابل من الكراهية. وما يجعل الأمر أكثر مصائبية أن نسبة لا بأس بها من الكوادر الطبية العاملة في المؤسسات الصحية، وربما نسبة من المرضى والمراجعين أيضاً، هم مسيحييون، أي نصارى بالتعبير الإسلامي.

كيف يمكن مثلاً لطبيب عربي مسيحي أن يعمل في بيئة مثل هذه البيئة التي لا تكتفي بإشهار عدم ترحيبها به، بل و تكيل له ولكل ذويه سيلاً من اللعنات؟ وكيف يمكن للمتأثرين بمثل هذا الطرح العدواني أن يتعاملوا معاملة لائقة وباحترام كامل مع هذا "النصراني" الذي تم تلقينهم أنه ضال مضل مطرود من رحمة الله؟ ومن هو المسؤول عن تحديد نوعية القنوات والبرامج التلفزيونية الممكن عرضها للمرضى والمراجعين في هذه المؤسسات؟ وأين دور الإدارات في مثل هذه المواقف؟ إن أكثر ما أخشاه هو ألا يكون لدى هذه الإدارات من الأساس أي إدراك لخطورة مثل هذا الطرح الذي تبثه بعض القنوات.

لكن الوضع يصبح أكثر سوءاً عندما يقع نشر الكراهية في عقول وقلوب الأطفال الذين لم يرتووا بعد من الحب والحنان حتى تتطفل عليهم المشاعر السلبية في هذه السن المبكرة. فقد صدمت ذات مرة عندما استمعت لطفلة صغيرة وهي تردد النشيد المعروف "فلسطين بلادنا، واليهود كلابنا". وبالسؤال عن المصدر الذي أخذت منه الطفلة هذا النشيد تبين لي أنها تعلمته من الروضة التي تدرس بها. والحقيقة أن الطفل بإمكانه أن يتعلم مثل هذه الأشياء من التلفاز، ومن الأهل، ومن البيئة التي يعيش فيها، وليس فقط من المدرسة. وكيفما كان الحال، فإن من حق الأطفال أن يتحصلوا على الحماية والتحصين مما يضرهم اليوم أو يتهددهم غداً مثل الكراهية التي هي بلا شك واحدة من أهم الأخطار التي تهدد حياة الإنسان والمجتمعات في كل مكان.

تعليق عبر الفيس بوك