هموم.. سياحيّة!

د. محمد العريمي

(1)

في ظلّ كل ما يعانيه قطاع السّياحة من تحدّيات وجدل يدور بشأنه إلا أنّه من الظّلم الكبير أن نلقي باللوم على وزارة السّياحة لوحدها، ونحمّلها تبعات القصور الحاصل في هذا القطاع وكأنّها لوحدها المسؤولة عن تطويره والارتقاء به، فوزارة السّياحة وبرغم الجهد الكبير الذي تبذله نحو الارتقاء بهذا القطاع الحيويّ المهمّ من أعمال توعية، ومشروعات تحوّل رقمي، وتسهيلات مختلفة للمستثمرين، وبرغم الإحصائيّات المتنوّعة التي تشير إلى حدوث تقدّم ملموس في هذا القطاع كمّاً وكيفاً، برأيي ينبغي أن تكون جهة مشرفة على تنفيذ رؤية الحكومة في هذا القطاع، وتمارس دور التنسيق بين الجهات المختلفة المرتبطة به، إضافة إلى القيام بأعباء التسويق والترويج والمساهمة في جذب الاستثمارات دون أن تتحمّل أعباء الإنشاءات وتوفير البنية التحتيّة التي هي من مسؤوليّة جهات أخرى.

في آخر لقاء لي مع عدد من قيادات الوزارة وعلى رأسهم معالي الوزير لمست حرصاً حقيقيّاً صادقاً، وجهداً كبيراً مبذولاً من قبلهم نحو الارتقاء بهذا القطاع، واطّلعت على خطط مستقبليّة مهمّة، لكن التحدّيات كبيرة، وهم بحاجة إلى أياد أخرى تعينهم على أداء المهمّة دون إلقاء كافّة التبعات عليهم وحدهم.

(2)

يعني بالعربي الفصيح كي يتطوّر هذا القطاع ويسهم بدوره الحقيقي في تنمية مصادر الدّخل القومي، وتوفير فرص العمل، وخلق مناخ اقتصادي مواز فنحن بحاجة أوّلاً إلى رؤية حكوميّة واضحة في هذا المجال، بمعنى: كيف تنظر الحكومة إلى قطاع السّياحة؟ وهل هناك رؤية واضحة لها تجاهه؟!

يلي ذلك وضع استراتيجيّة متكاملة تتبنّاها الحكومة لا الوزارة التي يقتصر دورها كما أسلفت على التنسيق، ومتابعة تنفيذ الخطّة، وهذه الاستراتيجيّة تشمل خطوات عديدة لعل من بينها: دور المجالس البلديّة، المناهج، البرامج الإعلاميّة، مراجعة كافّة القوانين والتشريعات المرتبطة بمجالات الاستثمار في هذا القطاع، ومحاولة تبسيطها وتسهيلها على ألا تشمل القوانين الاقتصاديّة فقط، بل تتعدّاها للقوانين المرتبطة بالتراث المادّي وغيرها، وليس من العيب هنا دراسة تجارب الدول المختلفة، ومعرفة أسباب نجاحها أو فشلها، والاستفادة من عوامل النجاح والتقدّم.

(3)

لن تتطوّر السّياحة الداخلية كذلك إلا بتفعيل دور المجالس البلدية، فمعظم الخدمات التي يحتاجها السائح والمقيم ينبغي أن يكون من صميم عملها، وكل ما يتعلق بالولايات من مرافق؛ ومعالم أثرية وبيئية فهو ينبغي أن يدخل ضمن اختصاصها، وفي كثير من مدن العالم الجميلة والمتكاملة الخدمات نجد أنّ من يقوم بتنظيم كافّة الأنشطة بها هي البلديّات المنتخبة دون تدخّل مركزي من قبل المؤسّسات الحكوميّة المركزيّة.

يعني باختصار لابد من وجود مجالس بلديّة منتخبة على مستوى المحافظات، والولايات، والقرى، لديها صلاحيّات واسعة، يتم اختيار أعضائها من بين أبنائها المبدعين المتخصّصين المحبّين للعمل البلدي التطوّعي، القادرين على التعامل مع امكانات وتحدّيات مناطقهم كما يتعامل الفنّان مع لوحته، ويمكن بمرور الوقت أن يحلّوا محلّ الجهات الحكومية البيروقراطيّة المشرفة على العمل البلدي، ويمكن أن يتغلّبوا على مشكلة الموارد الماليّة من خلال رسوم الخدمات البلديّة المختلفة، وضرائب الدخل للمؤسسات الاقتصاديّة العاملة في نطاق المنطقة، وعوائد استثمار بعض الأراضي والمباني، عدا مساهمة الشركات العاملة، وتبرّعات المجتمع المحلّي.

وقتها يمكن أن نوفّر بنية تحتيّة مناسبة لإقامة مشاريع اقتصاديّة سياحيّة مختلفة يديرها المجتمع المحلّي ذاته دون تدخّل مركزي بيروقراطي.

(4)

في كلّ زيارة لي لبعض القرى الجميلة التي تطلّ على البحر، أو تلك التي تقع بين أحضان الطبيعة البكر أتساءل بألم: لماذا تبدو قرانا بهذا الشكل! لماذا نجد القرى في كثير من الدول مخطّطة بشكل جيّد، مسفلتة بالحجارة الجميلة، شواطئها نظيفة وواسعة، تتناثر فيها الأشجار الكبيرة التي تضفي مزيداً من الجمال والبهجة، وتحيط بها المطاعم والمقاهي والنّزل الجميلة بمختلف مستوياتها، يتم استغلال بيوتها القديمة وحرفها التقليديّة، ويعمل كثير من سكّانها في أنشطة ذات علاقة بالسّياحة بحسب ما تشتهر به كلّ قرية على حدة.

ترى ما الذي يمنع قرانا أن تكون بصورة مشابهة لتلك؟! ولماذا تبدو شواطئنا كئيبة مبعثرة؟! ولماذا تخلو كثير من القرى من شجرة واحدة أو من نزل صغير، أو من مطعم أو مقهى مناسب، أو من حديقة عامّة صغيرة، أو حتّى من بضعة دورات مياه؟!

وماذا لو رغب أحدهم مثلاً في إقامة نزل سياحي، أو مطعم، أو مقهى أو، فهل وزارة السّياحة هي التي ينبغي أن تمهّد الأرض، أو تشقّ الطريق، أو تسوّي رمال الشاطئ، أو تنشئ الكورنيش، أو تبني الحدائق ودورات المياه من أجل أن تتكامل الخدمات، فيأتي السائح، وينجح المشروع، أم أنّ هذه مسؤوليّة جهات أخرى؟!

عودة للمجالس البلديّة.

(5)

ماذا قدّم مجلس الشّورى من أجل تطوير القطاع السّياحي في البلد؟! هل تمّ من خلاله تقديم مقترحات لقوانين وتشريعات يمكن أن تسهم في تسهيل المعاملات المتعلّقة بتنظيم القطاع السياحي كآليّة الحصول على الرّخص السياحيّة، وتسهيل إجراءات إنشاء المشاريع في هذا المجال وغيرها؟! هل تبنّى أحد من الأعضاء مثلاً مشروعاً للحفاظ على الإرث الحضاري والشواهد المادّيّة من قلاع وحصون وحارات وبيوت وغيرها من خلال مراجعة أو اقتراح قانون ينظّم التعامل مع تلك الشّواهد، ويقيّم مدى أهمّيّتها، ويقترح إمكانيّة الاستفادة منها؟!

سؤالي ليس استنكاريّاً ولا اتهاماً موجّه بقدر ما هو رغبة في ايجاد تكامل بين المؤسّسات المختلفة للنهوض بهذا القطاع.

(6)

في مدن مصريّة كالإسكندرية، ومرسى مطروح، وشرم الشّيخ، والغردقة، وأسوان وغيرها يمكن أن تجد عشرات النّزل والفنادق والاستراحات والأندية الاجتماعيّة التّابعة للقوّات المسلّحة، والشرطة، والمؤسّسات الحكوميّة والخاصّة، وبأسعار مناسبة للطّبقات الوسطى والدّنيا، وبعض هذه النزل غير مقصورة على الفئات التّابعة لتلك الجهات بل يمكن لأيّ نزيل أن يقطنها ويستفيد من الخدمات المتنوّعة التي تقدّمها، عدا المعسكرات الشّبابيّة الدّائمة التي تستقطب ألوف الشّباب وطلاب المدارس والكلّيّات في معسكرات صيفيّة وشتويّة يتعرّفون من خلالها على معالم بلدهم، ويسهمون في دفع عجلة النشاط السّياحي والاقتصادي بشكل عام، وتقوم الدولة بتخصيص أراضي مناسبة لتلك المؤسّسات مقابل المشاريع السياحيّة والشبابيّة والاجتماعيّة التي تنفّذها من خلال الصناديق الاقتصاديّة الخاصّة بها.

وتساؤلي الملحّ: أين هي رؤوس الأموال العمانيّة من الاستثمار في السّياحة الداخليّة؟! بل أين هي مساهمة صناديق التقاعد المختلفة في مشاريع كهذه؟! ولماذا لا تقوم الحكومة بتخصيص أراضي متكاملة الخدمات إلى بعض هذه المؤسّسات المشابهة لدينا من أجل استثمارها سياحيّاً وبالتالي توفير بدائل سياحيّة مناسبة لمنتسبيها وغيرهم، بشرط ألّا يتم استثمار تلك الأراضي في إقامة مشاريع الخمسة نجوم التي تقتصر على فئات بعينها من السيّاح، وأفراد الطبقة المخملية!

(7)

الاقتراح الذي طرحته 32789867 مرّة سابقاً، وسأعيد طرحه مرات أخرى قادمة هو : لماذا لا نجرّب أن نأخذ (الأشخرة) كنموذج سياحي من خلال ايجاد جهاز اداري مستقل ماليّاً وإداريّاً يتبع مجلس الوزراء مباشرة، وتخصّص له ميزانيّة سنويّة تغطّي مشاريع البنية التحتيّة المطلوبة، ويمكن إدخال المستثمر الداخلي أو الخارجي كشريك في عمليّة التنمية من خلال تخصيص أراضي للاستثمار وفق شروط معيّنة، ويمكن بعد ذلك تقييم التجربة، ودراسة مدى امكانيّة تطبيقها في أماكن أخرى بشرط توافر كافّة الظروف المناسبة لنجاح التجربة!!

لماذا لا نجرّب؟!

(8)

باختصار.. يمكن لنا أن نجعل من بلدنا بلداً سياحيّاً جاذباً من الدرجة الأولى، فكثير من المقوّمات الطبيعيّة والبيئيّة والتاريخيّة متوافرة، والعنصر البشري العماني أثبت كفاءته منذ الأزل، والدول التي تقدّمت في هذا المجال قد لا تكون جميعها أفضل منّا من حيث الإمكانات أو الكفاءات، فقط الأمر بحاجة إلى رؤية حقيقيّة واضحة، وتشريعات مناسبة، وتكامل في أداء الأدوار بحيث تكون لدينا صناعة حقيقيّة للسياحة لا تقتصر على (الكامباوندات) الخاصّة بالنخب، ولا الفنادق المخصّصة لطبقات بعينها، ولا في التركيز على مدن بعينها كالعاصمة مثلاً، ويمكن لأي مشروع سياحي حقيقي أن يسهم في تنمية المنطقة التي يقع فيها، وكل مشروع يجرّ الآخر، وبالتالي مزيد من الخدمات، ومزيد من فرص العمل، ومزيد من الرسوم والضرائب، ومزيد من الدخل.

تعليق عبر الفيس بوك