هُويَّة أطفال الحروب المرتحلة

ليلى البلوشي

ذَهَب مرَّة الشاعرُ الإنجليزي وورد ثورت في حديثه عن إمكانيات الإنسان في الظروف الشاقة: "موقف الإنسان من الحياة هو في الحقيقة مزيج من الإدارة والظروف الخارجية، إن بإمكانك أن تتدخَّل في تحديد مصيرك، وبإمكانك أن تغيِّر ظروفك، وبإمكانك أن تحس بالحياة إحساسا جديدا غير الإحساس المفروض عليك".

الحروب لا تخلف الدمار أو الخراب فحسب، بل هي ذاكرة عنيفة عن حاضر مشتت ومستقبل غامض ضحيته شريحة كبيرة من الناس الذين يجدون أنفسهم على حين فجأة مشتتين وضائعين، أحمالهم على ظهورهم استعدادا للنفور إلى أي وجهة مؤقتة يخالونها آمنة.

التشرُّد هو أعنف ما يحدث للإنسان بعد أن اعتاد بيته ومدينته وأهله وبلده، هذا التشرد الذي سينتج جيلا من الأطفال سيجدون أنفسهم بعد أعوام حاملين هوية مرتحلة.

سندرك جميعا بقليل من النظر في أحوال العالم الثالث أن أطفال الحروب أو أطفال جيل التشرد تغدو هوياتهم مربكة؛ فمجرد ما يحمل الطفل لقب لاجئ كفيلة بتشكل هوية متنقلة لديه، تكتسب عبر التجوال، كل بقعة تضيف له شيئا، كل بقعة تمص منه شيئا، ستكون للأجيال القادمة بلا شك هوية خاصة بهم، هوية لن نفهمها نحن، هوية مستحدثة لا تجيد لغة الثبات ولا الوطن الواحد، هي هوية مرتحلة بالمعنى الأدق.

سنجدُ بعد أعوام مديدة أنَّ أطفال الحروب الذين تشكلت لديهم هويتان أو أكثر، هوية بلده وأبيه وعشيرته المغروسة في دمه، وهوية بلده الجديد المرتحل إليه، سيسعى لأن تتجسَّد في روحه هوية محايدة هوية ثالثة ربما كي تصلب وجوده، سيضطر إلى تبني هذه الهوية -شاء أم أبى- كي يكون جزءا من عالم وجد نفسه فيه، كي يخلق اندماجه في مجتمعه الجديد، كي يكون مواطنا صالحا في نظر المجتمع الذي يطالبه بالاندماج، وعليه أن يثبت لهم أنه قادر على هذا الاندماج بشروط كاملة.

سيُدرك طفل الحروب الطفل اللاجئ أنَّ الهوية الإنسانية هي الأبقى، الهوية الإنسانية هي أكثر شمولا وأكثر استيعابا لاختلافه، هي هوية أكثف انتماء للإنسانية فيه؛ حيث تتبنَّى الاختلاف وتدعمه، هوية إنسانية تبغض العنصرية والطائفية، قادرة على تجاوز الاختلاف مهما كان لونه وجنسه وديانته وبلده.

سيُدرك هذا الطفل الذي أنجبته ظروف الحروب، والذي اعتاد على صوت المتفجرات، وعلى لون الدم، وعلى ترك بلده وأرضه وأصدقائه، على التخلي عن مقتنياته، أن هذه الحياة تتطلب من الإنسان أن يضحي، هو كائن مضح بامتياز، لقد خلقت منه الحروب تركيبة لا يمكن أن يستوعبها أو حتى يدركها طفل لم يخض الحرب، طفل خلق في بيئة صحية، نال من التعليم ومن ظروف الحياة المعقمة ما لم ينله طفل الحروب.

لن تكون هوية طفل الحروب هوية عربية خالصة بعد مرور الزمن؛ فشوائب تلكم التغييرات غدت ضرورة من ضرورات الزمن الراكض بقوة ترليون طائرة نفاثة، والفرد الشريد لم يجد بُدًّا بعد أن صار لاجئاً، بعد أن عايش ظروف اللجوء ومصائبها سوى أن يجد لنفسه مكاناً جديداً يستوعب ظروفه، في ظل عالم متغير، في ظل عالم وجد نفسه فيه مهمشاً ومتهماً في آن، فهو يدرك تماما أنه كعربي وكمسلم هو متهم بسوء الظن وملاحق بصفته من سليلة إرهابية وهذا كفيل بتدجينه!

Ghima333@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك