وللباصر لنا عودة...!

عائشة البلوشيَّة

هل تذكرون شخصية الباصر عبدالله بن سيف، والذي سردتُ "حواراته" في مقالين سابقين؟ حقيقة وردتني الكثير من الرسائل والتعليقات على مقال "أبو القفول"، تتحدَّث عن العديد من الحكايات المشابهة لما جاء في ذلك المقال، وأنه لايزال هنالك بعض من أولئك الذين يحملون اللمسة السحرية المتجانسة من النية الخالصة وصدق الرغبة في تقديم العون لمن سَعَى إليهم، ومنهم من سرد علي قصص علاج ناجحة على أيدي الشخصيات التي أوردتها، وكان هدفي من المقال هو الترغيب في نقل المعرفة بين الأجيال، شريطة أن ننفض منها عوالق الدجل والشعوذة والخزعبلات.

ذكَّرتكم بالباصر في استهلالية مقال اليوم ﻷحدِّثكم عن قصته التي لا تخلو من العجب والطرافة نوعا ما، فقد وُلد عبدالله بن سيف ﻷب يملك علما غزيرا جدا، ولكن عبدالله -رحمه الله- امتهن التجارة في بداية حياته، واشتغل بها ظنا منه أنه لن يصل إلى ما وصل إليه والده رحمه الله، ولكن تحدث في حياة الفرد منا مواقف تجعله يغير مسار حياته تماما، ويلتفت إلى القدرات الكامنة في داخله، حيث إنَّ عبدالله بن سيف مرض مرضا عضالا في بداية حياته، وأصبح طريح الفراش، ولا يكاد يأكل أو يشرب إلا وأخرجه دما قانيا من بطنه، وأصبح يسهل دما غزيرا وشارف على الموت وبدأ يحتضر، ووصل الخبر إلى جدي الشيخ سويدان -رحمه الله- فقام من فوره ودخل عليه، ووجده على تلك الحال والدم ينفر منه، وقد استقبل القبلة على اضِّجاعه ذاك وهو يُوصي من حوله ويودعهم، فقال له جدي -غفر الله له- "بما أنك تعد نفسك ميتا لا محالة، ومستسلما كما أراك الآن لهذا الأذى ليفتك بك، ما رأيك لو تركت لي أمر علاجك؟ فإن وفَّقني الله كُتبتْ لك الحياة وستعيش طويلا، وإن مُتَّ فلن أكون قد أضفت لك شيئا وهو أجلُك قد حان"، وﻷنَّ عبدالله بن سيف يعرف من هو سويدان بن محمد -رحمهما الله- سلم نفسه له قائلا: "افعل ما بدا لك".

أمر جدي -رحمه الله- بإيقاد الحطب في الصريدان (مكان لإيقاد النار التي يطبخ عليها القهوة سابقا في فناء الدار)، وكان قد جلب معه مسمارا خاصا، وبدأ في تسخين المسمار حتى احمرَّ لونه وأصبح ملتهبا، وأمر من حوله بكشف الملابس عن بطن عبدالله، وقال له تحمل الألم، وأشار لهم بأن يمسكوا به حتى لا يحرك جسده في ردة فعل ﻵلام الكي، وبدأ في كي نقاط معينة حول السرة، متتبعا نقاطا بعينها، حتى أكمل مائة وواحد وَسْمًا وتوقَّف، وقال لهم جدي: "أعدوا له الطعام فسوف يصبح بخير بعون الله"، وخرج عنه، وعاش عبدالله بن سيف بصحة وعافية حتى جاوز التسعين عاما، وحسبما روت لي جدتي الغالية -أطال الله في عمرها- بأن تلك الطريقة هي لتتبع "اللصة" وقتلها كاملة، و"اللصة" في اللهجة العمانية تعني أجاركم الله السرطان، وأن عدد الوسوم يحدده الذي يقوم بالكي ﻷمر هو يراه دون سواه، لذلك جاء عدد الوسوم محددا بمائة وواحد دون زيادة أو نقصان.

العبرة في الأمر أن ما مرَّ به عبدالله بن سيف جعله يعيد حساباته، وأن التجارة هي مهنة الدنيا يعتاش منها، ولكن هناك مهنة إنسانية كان يجدها في نفسه عندما يفتقد أحد من أهله غرض ما؛ فعكف على أخذ العلم عن والده -رحمه الله- وتقوية هذه الملكة ليصبح أشهر المحورين في الظاهرة كلها؛ حيث تلك الحالة المفصلية بين الموت والحياة جعلته يلمس ذلك النور في داخله، ليشعل مصباح المعرفة والعلم ويصبح من أشهر البصار في زمانه.

لكلِّ إنسان منا حظوة في جانب معين، ولم نخلق لنكون نسخا متشابهة من بعضنا، بل إنَّ جمالنا في اختلاف أرواحنا وأجناسنا وألواننا وطباعنا، والحصيف هو من بحث عن تلك الملكة التي وهبها الله تعالى له، وطورها واهتم بها ليخدم بها الدوائر المحيطة به، من إنسان ونبات وحيوان وجماد، حتى يبلغ أوسع الدوائر، وأن يتجرَّد من الأنا التي تسيره ليؤذي فلانا من أجل مال، أو يظلم علانا من أجل هدف دنيوي زائل. إنَّ الارتقاء بالنفس من الرزايا، والتخلص بها من الدنايا، هو أسمى درجات المعرفة، فكم من حامل لدرجة علمية ليس له منها إلا الاسم، وكم من متواضع لم يكن له حظوة في مؤهل أو شهادة، ولكنه يملك من المعرفة الكثير، والعكس صحيح، ما أجمل الرقي في التعامل مع كل الكائنات، وما أروع أن يكون للإنسان منا بصمة أسلوب تميزه بين الجموع، لنتحرر من ظلام السلبية، ولنأخذ بطاقاتنا إلى انعتاق النور في دواخلنا، لنبني ونعطي ونساهم في رفد الكون بأكمله.

-----------------

توقيع: "الله محبة.. النور محبة.. الخير محبة".

تعليق عبر الفيس بوك